قال لي، إن الوطن أسمى من الأرض، ترابها وصخرها. الوطن أوثق من العائلة والقبيلة. الوطن أجمل من خرائط الجغرافيين وأكثر أصالة من تأريخات المؤرخين. وأرقى من تلك الحدود التي يرسمها السياسيون.
أخبرني أن الوطن ركن من أركان إنسانيتك، وجزء لا تراه من جسدك، قال لي: أظن أن الشهيد في سبيل الله منافحا عن وطنه سيعطى خمسة أضعاف الشهادة، فالوطن دين ونفس وعرض ومال وأرض.
حدثني أبي أن الوطن غطاء، وحال مواطنيه أشبه بعائلة فقيرة تأوي إلى حجرة صغيرة، عدوها نسمات ليل الشتاء القارسة، وليست لها وسيلة للحماية من هذا العدو إلا اجتماعها تحت الغطاء الوحيد الذي تملكه، داخل حدود ذلك الغطاء تتنوع الأفكار والطموحات والشخصيات، فما يعشقه الأب تشمئز منه الأم، وما يروق للأخ تنقمه الأخت، وما يخيف صغار العائلة يضحك كبارها، هذا الغطاء الدافئ هو وطن العائلة رغم تعددية سماتهم وتوجهاتهم.
قال لي: لو كان الوطن أرضا دون البشر لما طلب آدم من الله مؤنسا لوحشته، ولو كان الوطن بشرا دون الأرض لما عاش مواطن بعد موت وطنه.
الوطن أرض وبشر، ماء وشجر، هواء وضوء، حامٍ ومؤنس، حلو وماتع، مرّ وقاسٍ، مال ورفاهية، فقر واحتياج، سكن ودفء، عراء وبرد.
الوطن يا بنيّ لسان ينطق بلغتك وإن تعددت لهجاته. أرض تسير فيها مواطنا لا غريبا وإن ابتعدت عن عشيرتك. ماء يروي عطشك وإن تغير مصدره. طعام يشد عزم جسدك وإن زاد ملحه. سلاح مشهر يدفع عنك البلاء وإن كان في يد غيرك. عدل ينصفك ويقتص من ظالمك. شجرة تتفيأ بظلالها من حرّ الشمس وإن كانت ذات أشواك، قانون يحد غيرك من الرعونة والتهور وإن جاء ضدك يوما ما. دار عبادة تمارس فيها فرائضك دون مصادرة لحقك في التعبد.
علمني أبي أن فاقد الوطن فاقد للذات، وفاقد الذات جسد لا أكثر، ومحب الوطن محبٌ لنفسه ونفسك، إن لم تحبها ستقبل هوانها وضعفها.