حفل التراث العربي بأنواع شتى من التأليف، فلم يدع المؤلفون موضوعا لم يكتبوا فيه، فقد ألفوا في الموضوعات الجادة في دقائق العلوم والفنون ولم يغفلوا الموضوعات الطريفة، كما خصوا كل موضوع بتأليف، وكل مسألة بمصنف، وكل فن بكتاب أو رسالة، في جد أو هزل.


مادة غنية

كتاب "الأجوبة المسكتة" جمع فيه مؤلفه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي عون الكاتب المتوفى سنة 322هـ، مادة خصبة غنية من أجوبة الأعراب والمتكلمين والفلاسفة والحكماء والزهاد والنساء، بما يدل دلالة قاطعة على بلاغة في التعبير، وسعة في الفكر، وقوة في الحجة، وفصل في الخطاب، ومع هذه الفصاحة والبلاغة والحكمة التي تبدو في كثير من الأجوبة نجد أدبا وطرافة ودعابة وظرفا وصراعا بين الفكاهة والجد، يقول الجاحظ عن الأجوبة المسكتة: "أصعب الكلام مركباً، وأعزه مطلبا، وأغمضه مذهبا، وأضيقه مسلكا، لأن صاحبها يعجل مناجاة الفكرة واستعمال القريحة، حيث يروم في بديهته نقض ما أبرم القائل في رويته، ويفتح ببيانه منغلق الحجة، ويسد على خصمه واضح المحجة".

ونجد في "الأجوبة المسكتة" المتعة والتسلية بالإضافة إلى الحكمة والبديهة لكثرة ما يضمه الكتاب من أجوبة هزلية، وفكاهات طريفة، ونكات ظريفة مما كان يدور في مجالس أنسهم وجلسات طربهم ومنتدياتهم الخاصة. والأجوبة التي تضم الحكمة البالغة في عبارات بليغة موجزة، فمن ذلك.

وشى واش إلى الإسكندر برجل، فقال: أتحب أن نقبل منك ما قلت فيه على أن نقبل منه ما قال فيك، قال: لا، قال: فكف عن الشر يكف عنك.

والمؤلف اطلع على كل ما ألف في الأدب قبله كما اطلع على الثقافة الأجنبية في عهده، سواء على هيئة رسائل أو على هيئة كتب دخلها الترتيب وحسن التبويب بعد ذلك، وتخير من المنظوم والمنثور، فمن المؤلفات العربية والمترجمة انتقى ابن أبي عون هذه الطائفة من الأجوبة المسكتة، ومنها اخترنا هذه الطائفة.

               

* رأى الحسن على مالك بن دينار كساء صوف، فقال: أيعجبك هذا الطيلسان؟، قال: نعم، قال: إنه كان على شاة قبلك.

 


مواقف

* جلس بعض الزهاد إلى رجل يشتري منه شيئا، فقال له بعض من حضره: هذا فلان الزاهد فأرخص عليه، فغضب وقام وقال: إنما جئنا نشتري بدراهمنا، ولم نجئ نشتري بأدياننا.



* قال رجل لهشام القوطي: كم تعد؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأكثر، قال لم أرد هذا، كم لك من السنين؟ قال: والله ما لي منها شيء السنون كلها لله، قال: فما سنك؟ قال: عظم، قال: فابن كم أنت؟ قال: ابن اثنين رجل وامرأة، قال: فكم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لقتلني، قال: فكيف أقول؟ قال: تقول: كم مضى من عمرك؟.



* أتى رجل جارا له وكان بخيلاً، فقال له: جعلت فداك، قد مات أخي ولا كفن له، فقال: والله ما عندي اليوم ما طلبت، ولكن تعهدنا وتعود بعد أيام فسيكون ما تحب، فقال: فتأمر له بكف ملح إلى أن يتيسر الكفن.



* أتى أبو موسى المكفوف مؤدب الحسن بن رجاء نخاسا فقال له: اطلب لي حمارا ليس بالصغير المحتقر ولا بالكبير المشتهر، إن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، لا يصدم بي السواري، ولا يدخلني تحت البواري، إن أكثرت علفه شكر، وأن أقللته صبر، إن حركته هام، وإن ركبه غيري نام، فقال النخاس: يا عبدالله اصبر قليلا، فإن مُسخ القاضي حمارا أصبت حاجتك.



* كان بالمدينة عابث قد أفسد أحداثها، فشكا الناس أمره إلى السلطان، فنفاه إلى خارج المدينة، فقربت المسافة على الناس، فكانوا يركبون حمر المكارية ويصيرون إليه، وكثر ذلك حتى كان الإنسان يركب فيسير الحمار ويقف عند بابه، فأحضره وقال: ليس تريد شاهدا أعدل عليك من هذا، وأمر بنفيه فبكى، فقال له: مم تبكي؟ فقال: من شماتة أهل العراق بنا، يقولون أهل المدينة يقبلون شهادة الحمير، فضحك الوالي وخلى سبيله.