لن أتحدث في هذه المقالة عن معجزة الملك عبدالعزيز (رحمه الله) في استرداد الرياض، ولا عن حروبه الكثيرة التي خاضها في جميع الاتجاهات لتوحيد المملكة العربية السعودية، وإن كانت كلها جديرة بالاهتمام، وجديرة بالثناء، وهي ظاهرة ومعجزة لا يؤتاها إلا مثل ما أوتي الملك عبدالعزيز، من الشجاعة والحكمة والإقدام والصبر والعزيمة، والصدق والعدل والحزم وقوة الشخصية. وفوق ذلك الإيمان الصادق بأن الله ناصره ومعينه، وله في ذلك أقوال مبسوطة في بطون الكتب لا يتسع الحيز المتاح لذكرها.
وعلى الرغم من أن مهمة إخضاع هذا الكيان الكبير ليست بالأمر السهل، خصوصا في جزيرة العرب المترامية الأطراف، القليلة الموارد والصعبة المسالك، إلا أنها أسهل بكثير من المحافظة عليها متماسكة، ومن صهرها في كيان واحد هو المملكة العربية السعودية، ومن جعل كل واحدٍ في هذا الكيان يشعر بأنه جزء منه، يهمه المحافظة عليه، وبقاؤه واستمراره موحدا إلى أبد الدهر. وهذه هي المرحلة الحقيقية للتأسيس.. فكيف كان ذلك؟ وما العوامل التي ساعدت عليها؟ وللحقيقة والتاريخ أن الملك عبدالعزيز وحده- بعد الله سبحانه وتعالى- هو المحور الأساسي في تأسيس هذا الكيان الكبير، فهو قائد المسيرة، والعقل المخطط والمدبر، وربان السفينة التي قادها إلى بر الأمان، وهو القدوة الحسنة، والمثال الذي يُحتذى على مستوى العالم أجمع في تأسيس الدول الحديثة، وتثبيت أركانها، وتشييد بنيانها على أسس سليمة، ومبادئ ومثل واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، فما هي تلك المبادئ والمثل والأسس التي أرسى المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل بنيان دولته الحديثة عليها؟ وللإجابة عن هذا السؤال الكبير نكتفي بإيراد أهمها، ومنها:
*كسب القلوب (عَدّه كُتاب زمانه ومفكروه زعيم العروبة وموحدها)، وإنه لكذلك حقا، فهو عروبي وإسلامي، ومن الزعماء العالميين البارزين في زمانه، فقد التقى كبار زعماء العالم المعاصرين له فأعجبوا به، وبحكمته وصدقه، وصراحته وقوة شخصيته وتكاملها.
*الصفح عن خصومه وأعدائه والعطف عليهم وعلى أسرهم وأبنائهم وتقريبه لهم، وإدنائهم من مجلسه، وجعلهم في عداد رجاله الأقربين، وله في ذلك أقوال معروفة، ومواقف محفوظة.
* الكرم اللامحدود الذي اشتهر به حتى قيل إنه كان يتلذّذ بكرمه، وأنه (رحمه الله) كان مقصد الزائرين، وطلاب الحاجة، ليس من مناطق المملكة العربية السعودية وحسب، وإنما من مختلف أنحاء الجزيرة العربية وبادية الشام والعراق وكانت مضافاته الشهيرة وما أكثرها! مفتوحة للجميع، وشرهاته (أعطياته) السخية لا تستثني أحدا.
*محاربة الجهل ونشر العلم بين أبناء مملكته، فاهتم بفتح المدارس والمعاهد العلمية، وإيفاد البعوث الطلابية من نجد إلى الحجاز، ومنها إلى مصر وإنجلترا، والاحتفاء بعودة هؤلاء، وتعيينهم في مختلف أجهزة الدولة، وكان يقول: "الحِبْر عطر العلماء".
* عَمِل على ضبط الأمن، وتحقيق العدل والمساواة بين الناس، والعدل أساس الملك - كما يقولون- وضَرَب بيد من حديد على أيدي المجرمين وقطاع الطريق، وقضى على العصبيات القبلية والثأر، فأمنت البلاد والعباد على أنفسهم وأموالهم، وجعل البرقية مفتوحة لكل ذي مظلمة، يشتكي إليه برقيا ممن يظلمه كائنا من كان في أي وقت من ليل أو نهار فيرد مظلوميته، ويقضي له ممن يظلمه.
*حرصه على ربط المملكة بوسائل المواصلات الحديثة ومنها السكة الحديدية من الجبيل إلى الرياض، مرورا بالدمام والأحساء وبقيق، وغيرها من المحطات المعروفة، وكان رحمه الله يخطط لإيصالها إلى جدة، وعمل على سفلتة الطريق ما بين مكة وجدة، وما بين جدة والمدينة.
*توفير المياه للشرب والزراعة، ومنها إصلاح عين زبيدة، وإجراء العين العزيزية في جدة، والعين الزرقاء في المدينة، وإصلاح عيون الخرج والأحساء، وتوفير عدد كبير من الآبار والموارد المائية في مختلف أنحاء المملكة، وكذا استقدام الجيولوجي الأميركي توتشيل للبحث عن المياه، فأكرمه الله بالبترول.
*الاهتمام بصحة المواطنين، وتطعيمهم ضد الأوبئة والأمراض المستعصية، فأنشأ مصلحة الصحة العامة ومقرها مكة، ولها أفرع في مختلف أنحاء المملكة، واُفتتح في عهده عدد من المراكز الصحية والمستشفيات العامة والمحجر الصحي.
*الاستفادة من الوسائل الحديثة، بما فيها السيارات والهاتف والبرقيات التي لقيت من لدنه (رحمه الله) اهتماما كبيرا، فابتعث البعوث لتعلمها والتدرب على استخدامها وعممها على سائر أنحاء المملكة، وكان لا ينتقل من مكان إلى آخر إلا وجهاز اللاسلكي بجانبه.
*استقطاب ذوي الخبرات من البلاد العربية للاستفادة من خبراتهم، نذكر من هؤلاء: يوسف ياسين ورشدي ملحس وعبدالله الدملوجي وفؤاد حمزة وحافظ وهبة وخير الدين الزركلي والقرقني وغيرهم، فقربهم إليه، وأكرمهم، فأخلصوا له، كذلك استفاد من الضباط الأتراك ومن الضباط الحجازيين الذين كانوا في جيش الشريف، فجعلهم نواة جيشه، وقربهم إليه، وأكرمهم فإذا بخصوم الأمس من أشد محبيه ومناصريه وعماد جيشه.
*وضع الملك عبدالعزيز، رحمه الله، الأساس لمؤسسات الدولة: فأسس مجلس الوكلاء الذي تحول إلى مجلس للوزراء في أواخر أيامه، وأسس مجلس الشورى، وأجرى عددا من التنظيمات للدولة الحديثة، فبدأ في وضع النظم الأساسية للدولة بعيد دخوله الحجاز، وبالتحديد في سنة 1345 (1626)، فصدر منذئذ حتى عام 1369، أي قبل وفاته بأربع سنوات 36 نظاما، ما تركت شاردة ولا واردة من حاجات الدولة والمجتمع إلا وغطتها، بالإضافة إلى مئات التعليمات والإرادات الملكية التي سُجِّلت في عهده، وأصبحت بمثابة أنظمة ما زال العمل بها أو بمعظمها جاريا إلى اليوم.
وقد بلغ عدد هذه التعليمات المعمول بها في الدولة 24 كلها معروفة ومسجلة بأرقام وتواريخ معتمدة. وقد أصدرت مطبعة أم القرى كتابا في ثلاثة مجلدات بعنوان: مجموعة النظم: خُصّصَ الجزءُ الأول منه من سنة 1345-1357 للقضاء الشرعي، والجزء الثاني من الأعوام نفسها للصحة العامة والمحاجر الصحية، والقسم الثالث من سنة 1345 إلى سنة 1358 خُصّص للبرق والبريد والتليفونات، وما مات الملك عبدالعزيز، رحمه الله، إلا وقد وضع الأسس اللازمة للدولة الحديثة التي ننعم بها في وقتنا الحاضر، وستنعم بها أجيالنا من بعدنا، بحول الله وقوته إن شاء الله.