يقع المنزل الذي ولد فيه شكسبير في قرية صغيرة اسمها ستراتفورد، تبعد هذه القرية عن العاصمة لندن حوالي ساعتين. يخيل إليك بمجرد وصولك للقرية أنك انتقلت لبعد زمني آخر فالقرية تقوم بالكامل على تراث شكسبير وكل ما فيها يوحي بذلك. على سبيل المثال، تقتبس معظم شوارع القرية وميادينها ومقاهيها الصغيرة أسماءها من عائلته شكسبير أو أعماله. البيت بحد ذاته يحوي تصوّرا كاملا لتراث شكسبير، الطاولة التي كتب عليها والمحبرة التي استخدمها والمسند الذي أراح قدميه عليه. يستقبلك في أركان المنزل وحجراته مرشدون سياحيون يرتدون ثيابًا تحاكي ذلك العصر، ويلقون عليك التحية بكلمات إنجليزية بعضها اندثر ولم يعد يستخدم الآن ثم يحدّثونك عن التاريخ الشكسبيري مع إيماءات مسرحية ملحوظة.

تعيش التجربة الصوتية البصرية كاملة وتنتهي رحلتك في معرض صغير يوفّر تذكارات شكسبيرية بأسعار معقولة. عندما تشتري تذكرة الدخول والتي لا يتجاوز سعرها 25 جنيها إسترلينيا للطالب مع طفلين يسألك البائع إذا كنت تريد إضافة أي وجهة أخرى من الوجهات الخمس الأخرى في القرية التي ارتبطت مباشرة بشكسبير مثل كوخ زوجته آن هاثواي أو مزرعة ابنته سوزانا بسعر مخفض، علمًا بأنك تستطيع زيارتها في أيام أخرى فالتذكرة صالحة لمدة عام كامل من تاريخ الشراء. يعرض بعدها البائع عليك قطعة معدنية تحاكي القطع النقدية التي استخدمها شكسبير ويقول مبتسمًا: (هي تذكار لك، وفي حال أردت التبرع بقيمتها ضعها في السلة التي ستصادفك عند بوابة الخروج). يقدِّم المنزل محاضرات ثقافية ونقاشات أدبية على امتداد السنة. كذلك تتعاون إدارته مع المدارس المحلية ومعاهد اللغة والجامعات لتنظيم الزيارات التعليمية والثقافية للطلاب بمختلف مستوياتهم. خلال زيارتنا قابلنا سيّاح من أميركا ومن تايلند واليابان وأيضًا من الخليج من مختلف الفئات العمرية والخلفيات الثقافية. ومع حرص إدارة المتحف على الأصالة إلا أنهم يواكبون التقنية بشكل ممتاز؛ فللمتحف موقع إلكتروني تفاعلي يتم تحديثه باستمرار، كما تحصل على تخفيض جيد في حال اشتريت تذكرتك عن طريق الموقع، لأن هذا يعني تخفيف الزحام على شباك التذاكر عند وصولك للمتحف. وعلى ذكر التذاكر، يتمتع المتقاعدون بسعر خاص كما يستقبل المتحف الأطفال دون الثالثة من العمر مجانًا.

لا يخفى على المتأمل أن وجود متحف شكسبير في هذه القرية إحياء لها على الصعيد الاستثماري، فمع البعد الثقافي الواضح هناك أيضا فرص العمل الدائمة والموسمية في مختلف القطاعات من الفنادق للمطاعم والمقاهي وقطاع النقل والتعليم و أغلبها لملاك محليين. متحف شكسبير في قرية ستراتفورد مجرد مثال من عدة أمثلة مشابهة لقرى أو مدن بريطانية صغيرة تقوم بالكامل على متحف لشخصية شهيرة أو جامعة أو حتى فريق كرة قدم كما حدث مؤخرًا مع فريق مدينة ليستر.

إن إحياء هذه المدن والقرى بالأنشطة المشابهة يشجّع أبناءها على البقاء فيها لأطول وقت ممكن، يستمر بعضهم في إدارة أعمال العائلة مثلًا وقد لا يغادر قريته مطلقًا. ولماذا يغادرها والعالم يأتي ليراها؟ الوصف التفصيلي أعلاه ليس دعاية مدفوعة ولا يدخل في باب الانبهار الثقافي بل مجرد محاولة لتقديم مثال عملي جاهز يمكن محاكاته والاستفادة منه.

في بلادنا الحبيبة مواقع أثرية كثيرة يمكن استثمارها بشكل مشابه بإحيائها والمحافظة على لمستها الخاصة وتراثها وطابعها الحضري، منها على سبيل المثال لا الحصر قصر حاتم الطائي، قرية رجال ألمع التراثية ومغارة جبل القارة. وبمناسبة مغارة جبل القارة، أتمنى على الإخوة الأفاضل في اللجنة الوطنية للسياحة أن تتسع صدورهم لملاحظاتنا وأن يقرؤوا مشكورين ما ورد في هذه السطور ليعلموا أننا لسنا طماعين لكننا نظن أن ما يقدَّم في المشاريع السياحية في بلادنا يمكن أن يكون أفضل على عدة مستويات من الشكل إلى المحتوى والمضمون. إن من واجبنا ومن حق المجتمع وحقهم علينا ضمن مبدأ الشفافية أن ننتقد ضعف المشاريع وتواضع تنفيذها وارتفاع تكلفتها غير المبرر على جيب المواطن البسيط الذي لا يستطيع مع الأسف زيارة متحف شكسبير.