عرف الإنسان منذ البدء أن سر وعظمة الإبداع يكمنان في الابتكار، والبحث الدؤوب عن اكتشافات تفتح آفاقا جديدة للمستقبل البشري الإنساني، وليس ذلك الذي يقف بك عند حدود أرنبة الأنف، من اجترار قسري للماضي وترديده، ومحاولة إيهام المتلقي باتساع الدائر المعرفية الفردية الخاصة، فذلك في الواقع اكتساب لمعرفة محدودة داخل نطاق واحد، لا يخرج عن تخصص باتجاه معين ما، هو في مضمونه انحصار داخل إطار معرفي أحادي، من شأنه رسم صورة بلون واحد، لا تعطي انطباعات متعددة عن الشيء الذي تمثله، بل إنها تحوله إلى رتابة ومحدودية لا تضيف كثيرا، بقدر انتفاخها واستحواذها على مساحات مهمة على خارطة البشرية.
الغريب ألا يستوعب البعض هذه النقطة التي يطلق عليها الفيلسوف "إيمانويل كانت" نقطة البداهة، على الرغم من أن ذلك هو ما قاله ويقوله الماضي على الدوام، ففي الوقت الذي يفرّغ فيه الماضويون مفهوم المستقبل من أبجدياته وأدبياته وتطلعاته، ليظل في ذاكرتهم مجرد مصطلح يقصد به الجديد نظريا، نجدهم يستغرقون في محاولات تأصيل الماضي على نمط قائم على الأحادية، لأن المستقبل في عرف الماضوي مفردة اصطلاحية لا تستحق أكثر من التعريف اللغوي، وهذا ما دأبت عليه عقلية الحفظ والتخزين على مر العصور، وهو أحد أكبر مشكلاتها وأغلالها ومأزقها.
هذا النموذج في تفسير الأشياء مقبول في المحيط الماضوي، لكنه في الواقع ترجمة لسلطة الحفظ والتكرار، واستمرار لعبودية فكرية تضعك داخل دائرة الاعتقاد الشخصي الخاص، بامتلاك المقدرة على إدراك أبعد من الآخرين.
وقد أشرت في إحدى المقالات السابقة إلى أن "إحدى أشرس مشكلات العقل العربي والإسلامي، تكمن في انتظارهما للحلول وليس البحث عنها، إذ تحتشد أمامها الاستفهامات على اختلافها، فيعجزان عن الوصول إلى منطقة خارج صندوق الانتظار الذي حبسا نفسيهما فيه، وهنا يسقط الأفراد في فخ الوقوع في منطقة العقل الجمعي، وهي منطقة استحواذ سلبية تسيطر عليها حالة الغياب الكامل لفكرة التنوع، نتيجة لارتفاع أعداد النسخ المكررة الخاضعة لثقافة تفكير واحدة، تجعل منها مكانا خصباً للرتابة والتقليدية، ما يجعلها عاجزة عن صنع ما هو متجاوز أو مُبتكر، وغير قادرة على استيعاب ماهية الثابت والمتحول وعبقرية التنوع، حتى تتمكن من الوصول إلى إجابات مقنعة ومنطقية لاستفهاماتها الصغيرة على الأقل."، وهذا بالضبط ما يقع فيه كثير من المتعلمين على الدوام بكل بساطة.
عندما نقد الفيلسوف "إمانويل كانت" المدرستين الفلسفيتين العقلية والتجريبية، اعتقد كثير من المهتمين لأمر الفلسفة في العالم أن الامتداد الفلسفي قد انتهى، أو بمعنى أدق، أن الفلسفة توقفت عن الذهاب بعيدا في مشروعها الفكري الضخم، بهذا العمل الذي قام به "كانت"، لكن الواقع أن مدرسة جديدة عُرفت بـ"الكانتية"، قد فتحت الباب على مصراعية لمزيد من الاتساع المعرفي والفكري والباحث عن أصول الأشياء، ليعيد من جديد إحياء مفاهيم الفلسفة المحلقة، التي لا تكف عن البحث في الماورائي الميتافيزيقي، من خلال نظرية المعرفة الأبستمولوجي، وهو ما يجعلها علما مستمرا يبحث عن كشف الظواهر وماهيتها. وما يفضي إلى خلق تساؤلات مهمة على طريق البحث عن الحقيقة.
هذا النقد للمدرستين الفلسفيتين القديمتين، أنتج مدارس فكرية واتجاهات جديدة منها، المثالية الجديدة، والماركسية، والبراغماتية، والمدرسة الوضعية الجديدة، والمدرسة الفلسفية التحليلية (الوجودية)، والمذهب النسبي (التعددية)، وغيرها من المدارس الفلسفية الحديثة التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين، ليلجم "كانت" كل من حاول القول بانتهاء عالم الفلسفة، ويكشف ضيق أفقهم الذي لم يتجاوز حدود الحفظ للماضي، والوقوع تحت سلطة الغرور المعرفي.
لذلك فإنه من المهم ألا نظن بكمال امتلاكنا لأدوات الحقيقة، من خلال ما نحفظه، وأن ذلك يرجح الكفة على ما لا نعرفه، فالفرق بين الاثنين (الحفظ، المعرفة) شاسع باتساع الفكر والمعرفة نفسيهما.