اليوم الدراسي الأول تجربة مهمة لكثير من الطالبات والطلاب خصوصا من يبدأ مرحلة جديدة كالمرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية. اليوم الأول يعني التجربة الأولى مع مبنى دراسي جديد، جغرافيا جديدة، طاقم تعليمي جديد، زملاء جدد أو يعاد ترتيبهم من جديد. باختصار في هذا اليوم يعلن الطالب بداية رحلته كغريب إلى درجة معينة في المكان الجديد. الأغراب لهم خصائص نفسية مشتركة أو متشابهة. الأغراب مثلا متوترون ومرتابون ويبذلون طاقة كبيرة في تصرفاتهم. الطاقة هذه يوفرها غالبا من اعتاد المكان فهو لم يعد بحاجة للتفكير في طريقة ولا في تحديد المواقع المهمة ولا في توقع غالب الشخصيات التي تقابله. كل هذه الإجراءات قد تم تجاوزها. الغريب لا يزال في هذه المرحلة ولا يزال يصرف طاقة ذهنية وجسدية عالية لتدبر شؤونه.
إذا كان هذا الوصف صحيحا فإن تجربة اليوم الأول أو الأسبوع الأول للطالبات والطلاب تجربة خاصة تحتاج من البيئة التعليمية التعامل معها بدقة. كيف نتعامل مع الغرباء؟ هذا سؤال بشري قديم تعددت إجاباته على مدى التقاليد البشرية العتيدة لكن بشكل عام يمكننا الحديث عن شكلين من أشكال التعامل التقليدي مع الغريب: الحرب والضيافة. الحرب تاريخيا ليست محصورة على الغريب ولكنها كانت واحدة من أساليب التعامل معه. الحرب تتطلب إزاحة القريب وتغريبه بشكل أو بآخر. بمعنى أن قتل الآخر لا بد أن يسبقه تبرير لهذا القتل وأكثر هذه التبريرات عملية هو محاولة إظهار الطرف الآخر كغريب قدر الإمكان: غريب في أفكاره وغريب في سلوكه. الهدف هنا هو الدفع بالآخر إلى أبعد نقطة عن الذات. المدى هنا قابل لإخراج الآخر من الإنسانية مما يجعل قتله أقل كلفة بالمعنى الأخلاقي. السلوك التقليدي الآخر الذي يتحفنا به التاريخ البشري هو تقليد الضيافة الذي يسعى للعناية بالآخر والاهتمام به. الضيافة هنا موجهة للغريب تحديدا وبقدر اغتراب الآخر تزداد قيمة ضيافته. الضيافة عناية بآخرية الآخر وتنتهي عندما يصبح الآخر: من حمام الدار.
التراث الإنساني يمدنا هنا بشكلين متنافرين من طرق التعامل مع الغريب ولكن ما علاقتهما باليوم الدراسي الأول؟ سأحكي لكم حكاية واقعية:
حين كنت في الصف الثالث الابتدائي كان لدينا معلم بقاعدة ومبدأ غريب: لا بد أن أصفع كل طالب جديد ليعلم تماما أننا لا نلعب هنا. كان كثيرا ما يردد هذه العبارة أمامنا نحن الطلاب الصغار. في اليوم الثاني من الدراسة قدم علينا طالب جديد بصحبة والده. أدخله والده للصف ثم رحل بعد أن اطمأن أنه أخذ مقعده في حضرة معلمه. بعد رحيل الأب استدعى المعلم الطالب الجديد ثم صفعه على وجهه بكل هدوء. طلب منه العودة لطاولته ثم سألنا: هل تعلمون لماذا صفعته؟ لم نجب خوفا منه ثم ردد عبارته الشهيرة "لكي يعلم تماما أننا لا نلعب هنا". المعلم هنا يعمل على إخضاع الزائر الجديد. الحرب هدفها الإخضاع كذلك. اللعب علامة على فقدان السيطرة والتحكم. المنطق هنا برأيي مشترك: إخضاع الآخر للذات. الإخضاع هنا قد يأخذ أساليب ودرجات مختلفة ولكن هدفه واحد: القضاء على غيرية الآخر وعلى اختلافه.
في المقابل دعونا نتخيل المشهد السابق لو تم التعامل معه من منطق الضيافة. الطالب الجديد يتم الاحتفاء به والترحيب به من قبل زملائه. أتخيلنا نقف واحدا بعد واحد للترحيب به وتعريفه بأسمائنا وهواياتنا. أتخيلنا نأخذه بجولة تعريفية في المدرسة ونقدم له وجبة مشتركة كتعبير عن ترحيبنا به. أتخيلنا نسأله عن الطاولة التي يحب الجلوس فيها أو الزاوية المفضلة له في الصف. أتخيل المعلم هنا يراقب عنايتنا بالطالب الجديد ويعتني به معنا. يخبره أننا سنحاول أن تكون العملية التعليمية أكثر تشويقا ومتعة، وأنه سيبذل كل مجهوده من أجل أن تكون هذه الرحلة التعليمية أكثر فائدة ورحابة.
عدد من مدارسنا تدرك هذه المعاني وتعد استقبالا حافلا بالزوار الجدد. يبدأ هذا الاستقبال بزخرفة المدرسة والعمل على ترفيه الزوار الجدد واللعب معهم. هذا منطق عظيم وتوجه حقيقي. مهم جدا أن تستمر الضيافة مع مرور الوقت باعتبار أن الأطفال لا يتوقفون عن مفاجأتنا بما هو غريب ومفاجئ. آخرية الطفل لا تتوقف عن إنتاج نفسها باستمرار وبالتالي تحتاج المدرسة أن تكون مهيأة لاستضافة هذه الآخرية والغيرية باستمرار. كل من ربى طفلا يدرك تماما مدى تجدد ذات هذا الطفل بشكل يومي. باستمرار هناك هوايات جديدة وأفكار جديدة ليس من السهولة متابعتها والاحتفاء بها ورعايتها إلا بمنطق عميق من الضيافة. الضيافة هنا تعني الانفتاح على آخرية الآخر، على كونه غريبا ولا يشبهنا. المدرسة المضيافة هنا لا تطلب الطالبة بالتوقف عن كونها مختلفة بل ترعى هذا الاختلاف من خلال رعايتها لمساحات الثقة والأمان والحوار والتعاون، والبعد عن منطق الإخضاع والجبر ومطالبة الآخر بأن يشبه الذات. بهذا الشكل فإن اليوم الأول حقيقة لا ينتهي مع الطلاب والطالبات. الضيافة هي أن نحتفي بهذه الحالة: حالة التجدد اليومي، حالة الولادة المتكررة. هذه الحالة من رفض الاستقرار والسكون نراها في وجوه الطلاب في الصباح الباكر. أحيانا تغطيها ظروف الحياة ومصاعبها ولكنها لا تلبث أن تشرق مع أول ترحيبة واستضافة.