تقول القصة: "حدث صدام بين الرئيس الإداري ومساعده، إذ كانت هناك معاملة تتعلق بشراء أثاث مكتبي جديد لكل الأقسام الإدارية، فاعترض مساعد الرئيس على شراء ذلك الأثاث لعدة أسباب، منها: أن هذه الأقسام قد تم تأثيثها في العام الماضي، وقيمة الأثاث تتعدى صلاحيات الرئيس، كما أن الشراء يتم في كل مرة من شركة تجارية واحدة وبأعلى الأسعار، وبالتالي فإن هذا الشراء لا مبرر له ويعتبر هدراً للمال العام".
القصة السابقة ربما تتكرر في العديد من الجهات الحكومية، وعليه يكون الصدام الإداري حتمياً، وهذه المشكلة في الحقيقة تمثل المعضلة الكبرى للبيروقراطية، وتعتبر من أهم ثغرات الفساد في الأنظمة واللوائح والتعليمات، وهي تتخذ أشكالاً وصوراً متعددة، فقد يطلب الرئيس الإداري تعيين أحد أقاربه في الجهة الحكومية، ويتم رفض ذلك من قبل المدير أو المرؤوس، أو يتم رفض توقيع عقود مع شركات المقاولات.
وفي كل حالة يتم رفضها تكون هناك مبررات نظامية لهذا الرفض كما رأينا في القصة السابقة، ولكن البيروقراطية في الغالب تستعين بالإدارات القانونية من أجل التبرير النظامي للمشتريات أو العقود أو قرارات التعيين، ومن هذه المبررات على سبيل المثال: أن الشراء في مثل هذه الحالات قد جرى العرف الإداري عليها، كما أن التعامل مع شركة محددة بعينها فهو بمثابة تعامل مستمر معها لأنها شركة موثوق بها ومنضبطة في مواعيدها، والتعامل مع شركات أخرى تنشأ عنه مخاطر التأخير أو التعثر في التنفيذ، بالإضافة إلى أن مستندات الصرف سليمة ومتوافقة مع الأنظمة والتعليمات.
وفي واقع العمل البيروقراطي تكون الحلول لتلك الصدامات الإدارية إما باستقالة الموظف المرؤوس أو سحب الصلاحيات المالية والإدارية منه وتفويضها إلى الآخرين، بحيث يكون بدون عمل تقريباً، أو ربط الإدارات المسؤولة مباشرةً بالرئيس الإداري، أو التضييق على الموظف وإحالته إلى التحقيق داخل الجهة الحكومية نفسها، أو إحالته إلى هيئة الرقابة والتحقيق!
وفي الآونة الأخيرة بدأت تظهر الصدامات الإدارية على مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، الأمر الذي أثار استغراب العديد من الناس، لكون مثل هذه الممارسات تتنافى مع مبدأ "المحافظة على أسرار العمل"، بالإضافة إلى وجود قنوات رسمية مثل الجهات الرقابية المختصة والتي كان من المفترض رفع الشكاوى أو المخالفات الإدارية والمالية إليها بدلاً من التشهير ونشر الأسرار، وبالتالي يرى البعض أن مثل هذه الممارسات لا تتعدى كونها تصفية حسابات شخصية بين الرئيس والمرؤوس.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن نظام تأديب الموظفين يعفي الموظف من العقوبة إذا "ارتكب المخالفة بناءً على أمر مكتوب صادر له من رئيسه رغم تنبيه الموظف للرئيس كتابة بأن العمل المرتكب يكون مخالفة، ونظراً لأن الأصل هو اشتراك الموظف في المسؤولية الإدارية، إذ لا طاعة في معصية فقد رأى النظام أن يقصر هذا الإعفاء على المخالفات الإدارية والمالية العادية والبسيطة دون الجسيمة أو الجرائم الجنائية (الاختلاس، الرشوة، التزوير..)"، وبناءً على ذلك يرى البعض أنه لا يحق للموظف رفض توجيهات وأوامر رئيسه حتى وإن كانت غير نظامية! وليس هناك مبرر للصدامات أو التشهير في مواقع التواصل الاجتماعي.
وهنا تنشأ لدينا مشكلة التفريق بين المخالفات العادية والمخالفات الجسيمة، فبعض الجهات الحكومية للأسف تنظر إلى المال العام بأهمية نسبية ضئيلة مهما بلغت قيمته، واللوائح والتعليمات تتيح للجهات الرقابية إجازة المخالفات المالية في سقف معين، ولكن هذا السقف يمكن أن يتكرر دون تحديد مبلغ معين، الأمر الذي أدّى إلى عدم البحث في أسباب تكرار المخالفات وبالتالي عدم المساءلة.
وبالرغم من الصورة المثالية للعمل البيروقراطي، إلا أن ما يحدث على أرض الواقع مختلف تماماً عما قد يتصوره البعض، فالصدامات الإدارية كما ذكرت آنفاً هي صراعات حتمية لا مفر منها، ونتائجها في الغالب تتمثل في إجبار الموظف على الاستقالة أو حتى فصله من الخدمة وإنهاء حياته الوظيفية، وقد يلجأ الموظف في معظم الأحيان إلى الجهات الرقابية ولكن نتيجةً لتضارب المصالح وكذلك الرؤية السائدة في البيروقراطية والمتمثلة في وجود الصلاحيات المطلقة للرئيس الإداري أو المسؤول الأول في الجهة الحكومية أو إمكانية تفويض المسؤولية وإيجاد الضحية وكبش الفداء، ناهيك عن عدم تبلور المفاهيم القانونية للصلاحيات المالية والإدارية في القانون الإداري، جميعها عوامل تساعد الرئيس للقفز على الأنظمة واللوائح والانتقام التعسفي من معارضيه وخصومه.
ولهذا يلجأ البعض إلى مواقع التواصل الاجتماعي حتى لا تدخل قضيته في دهاليز البيروقراطية وتحفظ في أدراج المكاتب، ناهيك عن أن البيروقراطية ليس مطلوباً منها تبرير قراراتها، إذ يكفي أن تتضمن عبارة "المصلحة العامة" فتعلق عليها جميع سلبيات الإدارة وسوءاتها وفسادها، في ظل ضعف الشفافية وغياب المساءلة! وهنا يأتي دور "نزاهة" وديوان المراقبة العامة لإعادة النظر في منهجية أعمالهما، وإلا فإن مسلسل الصدامات البيروقراطية لن ينتهي على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي بالتأكيد سيكون لها التأثير السلبي على الخدمات الحكومية وتنفيذ مشاريعها.