هناك مشهد صغير عالق في ذاكرتي، قَصّته لنا -وأنا ما زلت طالبة صغيرة- معلمة التاريخ الأستاذة سوزان كركدان "حفظها الله".

هذا المشهد يحكي أن الأمير محمد بن سعود أمير الدرعية -رحمه الله- قال لابن عبدالوهاب:

"إن لي على الدرعية قانونا "أي ما يدفعه الضعيف إلى القوي ليحميه ويدافع عنه" آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا". استمع الشيخ للأمير ثم قال: "لعل الله أن يفتح لك الفتوحات، فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها".

لقد كان الشيخ -رحمة الله عليه- إنسانا صادقا مؤمنا بعقيدته، محاربا من أجل قضية عظيمة، وهي التوحيد، ولقد كرر الشيخ وأتباعه مرارا حقيقة أنهم لا يأتون بجديد، ولقد صدقوا في ذلك، فلا شيء في أفكارهم ورؤيتهم يدعو لاعتبار ما جاؤوا به مذهبا جديدا أو منهاجا مستحدثا.

في الواقع، معظم الكتابات في الغرب حول دعوة الشيخ، تربط بينه وبين أمرين: الأول: التشدد والتكفير، لمجرد أن هناك متشددين يعدون أنفسهم أتباعا للشيخ، لكن هناك آلاف المتشددين يعدون أنفسهم ورثة لعلم محمد "صلى الله عليه وسلم"، وهناك آلاف الإرهابيين أيضا يخرجون كل يوم ليقتلون الناس في بيوتهم وعلى جباههم اسم علي ابن أبي طالب عليه السلام، فكيف يدان الشيخ محمد بن عبدالوهاب بجنون هؤلاء؟

أما التكفير، فإنه شائع في التراث الإسلامي، بل إن هناك طوائف إسلامية قائمة عليه، وتتخذ من تكفير الصحابة ركنا تعتمد عليه. فلماذا يدان به الشيخ وحده؟

الأمر الآخر: المرأة وحقوقها، أو ربط الدعوة السلفية ككل بنقاب المرأة المسلمة، وهذا مخالف للحقيقة، فالنقاب موجود عند اليهود فهل تأثروا بدعوة الشيخ هم أيضا؟ والنقاب موجود في الدولة العثمانية "التي قضت عشرات السنين تحارب الشيخ وأتباعه" كفريضة ألزمت بها النساء في كل مكان من العالم الإسلامي -مصر وسورية مثلا- بينما الدولة السعودية لا تلزم به أحدا فكيف يبررون ذلك؟

في الحقيقة، التشدد مع المرأة وفي أحكامها هو ظاهرة في الفقه الإسلامي كله، ونسبته إلى الشيخ ظلمٌ بيّن، فحتى تراث الشيخ الذي تركه لم يتناول المرأة بل انصبّ -رحمة الله عليه- على موضوع التوحيد، أما كتابات تلاميذه فهي لا تخرج عن نطاق ما خرجت به كتابات من سبقوهم من علماء المسلمين حول المرأة.

لذا، الإشارة إلى الشيخ في ذلك هو إضاعة للوقت، فمن يرغب بالتجديد ومراجعة الأحكام التي تخص النساء، والذي تسمح به مرونة الفقه الإسلامي وتطوره، فليراجع الفقه كله، ويخفض إصبعه عن اتهام فكر دون آخر.

من ناحية أخرى، فإن النقاشات التي تدور عن الشيخ ودعوته اليوم وهذا الربط؛ المقصود به الإساءة إلى السعودية، والبحث عما يبرر إبعادها عن قيادة العالم الإسلامي.

لذا، فإن دور السعودي ليس الدفاع بل الهجوم عبر الأخذ بزمام تجديد الفكر الإسلامي، وتنقية الفقه والعقائد من التشدد.

وفي الواقع، المملكة تملك أدوات ذلك كله، فهي قلب العالم الإسلامي النابض ومهوى العلماء والدعاة في الشريعة، ولديها عدد هائل من كليات الشريعة وعلوم العقيدة، ما سيؤتي تطوير برامجها لنهضة حقيقية يحتاجها الإسلام اليوم.