"نلتقي في الوطن"، هكذا ختم الفنان الكبير محمد عبده حفله الغنائي الذي أقيم في مركز التجارة العالمي في مدينة دبي يوم الجمعة الماضي، مضيفا أمنياته بأن لا يبقى الفن السعودي في "المنفى". بقدر ما كانت تحمل كلماته هذه العفوية التي عهدنا بها فنان العرب إلا أنها كانت موجعة للمتأمل في واقع الفن السعودي وخاصة الغنائي منه. الأكيد أن فنان العرب محمد عبده علم وهو يشاهد الجمهور المبتهج أمامه -ويعلم كما في كل حفلاته الغنائية التي تُقام خارج السعودية- أن أغلبه قادم مثله من وطنه السعودية، ومن كان حاضرا لن يغالبه الشك في أن الحفل يكاد يكون سعوديا بامتياز، بدءا من الفنان حتى الجمهور والقناة المسؤولة، لولا المكان الذي اجتمع فيه هؤلاء السعوديون "الغرباء" من أجل الاستماع والاستمتاع بأحد الفنون المباحة والتي حرم منها كثيرا لأجل التعصب لرأي فقهي واحد.
مع الحفلة التي أحياها في سوق عكاظ أخيرا عاد الأمل بأن تكون تلك بداية لنهاية حقبة المنع غير المبرر للحفلات الغنائية داخل المملكة، خاصة مع إعلان حفلتين أخريين، إحداهما في مركز الملك الثقافي في مدينة الرياض، والأخرى في مدينة جدة نهاية الشهر الجاري بمناسبة اليوم الوطني. ولكن الأمل تلاشى بعد الإعلان عن إلغاء الحفلتين بالتوالي ولأسباب غير مقنعة.
ليس الفن الغنائي الوحيد الذي يعيش في غربة المنفى بأشخاصه وفعالياته، بل إن هناك خبرا يخص الفن التشكيلي يحمل ذات الهاجس. ففي دبي أيضا خلال الأسبوع الماضي أقيم معرض فني تشكيلي سعودي، بعنوان "إشراقات سعودية"، يضم 80 فنانة تشكيلية سعودية يعرضن فيه أعمالهن وقصص تجاربهن وبداياتهن. المشاركات الخارجية للمبدعات السعودية تبهج الجميع وتشرف الوطن بلا شك، ولكن التساؤل الموجع ذاته يتكرر بعد مرور مثل هذا الحدث: لماذا لم يكن هذا المعرض في إحدى مدن وطننا، لماذا لم يكن مثلا في قرية المفتاحة الفنية ليجتمع الجمال بعضه مع بعض؟
وحتى لا ننجرف كثيرا مع الأسئلة التي نطرحها هربا من مرارة الإجابة، سنلقي نظرة سريعة على ما يمكن أن تحققه هذه الفعاليات الفنية لو أُقيمت داخل الوطن، وأقصد بالفعاليات الفنية: الحفلات الغنائية، ومعارض الفن التشكيلي ودور السينما. أولى الفوائد التي تعود على الوطن والمواطن بالنفع تتعلق بالجانب الاقتصادي، فمئات الآلاف تصرف كل شهر من المواطنين بين شراء تذاكر سفر وحضور، وبين الإنفاق على السكن والمعيشة والمواصلات في البلد الذي تقام فيه أي من الفعاليات الفنية تلك لعدد غير محدد من الأيام يستدعي صرف المزيد لأي طارئ. والجانب الآخر يتعلق بتنشيط المجال السياحي للوطن، خاصة أننا نملك مساحة جغرافية كبيرة تسمح بتنوع مناخي وثقافي مذهل، يضمن أن يكون عامل جذب للزائرين والسياح من داخل وخارج الوطن، وأن تكون الهجرة للفن داخلية، وليست خارجية، كما يحدث الآن. ومن ضمن الفوائد التي ستعمل المعارض على تحقيقها لو أقيمت في الوطن بذات الجودة والسلاسة التي تقام بها خارجه: أن التركيبة الثقافية والاجتماعية للمجتمع التي تعاني كثيرا من المتناقضات والازدواجية في التعامل بين الداخل والخارج ستتحسن وربما تتعافى تماما من شوائبها، لما تخلقه مباشرة الفنون في المقام الأول في الأنفس من تصالح مع الذات وحب لتفاصيل الحياة، والإقبال على جمالها بشغف، وبما سيكون مع انتشار الحفلات والمعارض والمسارح من تعايش فكري بين فئات المجتمع، وتقبل للآخر ولخياراته في الحياة، وترك مساحة من الحرية يمارس فيها مواهبه ويعيش شغفه دون إقصاء وتضييق وحرمان من حق مشاع.
حينما أعلن ولي ولي العهد السعودي رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية رؤية السعودية 2030 قبل عدة أشهر، ركز على أن أهم طموح خلف إعلان هذه الرؤية هو: "أن نبني وطناً أكثر ازدهاراً يجد فيه كل مواطن ما يتمناه، فمستقبل وطننا الذي نبنيه معاً لن نقبل إلا أن نجعله في مقدمة دول العالم، بالتعليم والتأهيل، بالفرص التي تتاح للجميع، والخدمات المتطورة، في التوظيف والرعاية الصحية والسكن والترفيه"، ورافق هذا الطموح عدد من المبادرات في برنامج للتحول الوطني، منها الإعلان عن إنشاء هيئة للترفيه، ما زلنا ننتظر أن تقدم خدماتها التي ستخدم حتما الجانب الفني للوطن، وكذلك الإعلان عن البدء في إنشاء المعهد الملكي للفنون الذي علق عليه الكثير من الفنانين آمالا عريضة.
إن كنا نرى موقنين أن فنوننا تعيش في المنفى، لنتساءل بصدق عن الأسباب التي غربتها، ولماذا يشعر الفن والفنان هنا في وطنهما بالغربة، بينما تفتح أحضان الغير على وسعها لاحتوائهما؟!