السفر للسياحة ليس عيبا، بل هو من متع الحياة الدنيا المباحة التي يحلم بها الغني والفقير، ويمارسها الأشخاص من كافة البلدان والثقافات. فحتى لو كانت بلادك جنة الحياة الدنيا، فسيكون لديك توقٌ لتتعرف على الثقافات والبلدان الأخرى، على أناسها وطبيعتها وأجوائها وطعامها وأسواقها.
لذلك، ليس غريبا أن تجد سويديا يسيح في سريلانكا، أو أميركيا يزور غانا.
السعوديون كغيرهم، يحبون السفر للسياحة، سواء للبلدان القريبة أو البعيدة، ولا مشكلة في ذلك، سوى أنه مؤخرا بات ملاحظا أن نسبة لا بأس بها منهم، باتت تتحين كل إجازة وكل فرصة للسفر خارج الوطن، بما في ذلك عطلة نهاية الأسبوع، وإجازة اليوم الوطني "قامت الخطوط السعودية بتخفيض سعر التذاكر الدولية بمناسبة اليوم الوطني!"، خاصة لمن يسكنون بالقرب من حدود دول أخرى.
ونظرة بسيطة إلى جسر الملك فهد الذي يربط المنطقة الشرقية بمملكة البحرين مساء كل خميس وسبت، يكفي دليلا ظاهرا للعيان.
أظهر استطلاع بسيط قمت به من خلال "تويتر" شارك فيه 437 شخصا، بأن 56% من هؤلاء يسافرون للسياحة الخارجية مرة في السنة، مقابل 20% مرتين، و14% ثلاث مرات، وأخيرا أقر 10% منهم بأنهم سافروا أكثر من 3 مرات في السنة خارج المملكة للترفيه.
وتتراوح فترات السفر بين اليومين والشهرين، بحسب الالتزامات الأسرية والمادية والدراسية أو العملية، وبات طبيعيا أن تسمع عمن يسافر بقرض، أو بالاعتماد على البطاقات الائتمانية، أو من خلال دخول جمعية.
كل ذلك يُظهر أن الرغبة في السفر باتت شديدة وملحّة لدرجة باتت للبعض وكأنها من الأولويات، بعد أن كانت من الكماليات التي يقوم بها العرسان أو أصحاب الدخول المرتفعة مرة في السنة. فما السبب؟ وقبل ذلك، هل يمثل ذلك مشكلة؟
سأبدأ بالإجابة عن السؤال الثاني، وهو أنه ربما يشكل مشكلة، لما فيه من صرف للأموال الطائلة خارج أرض الوطن، وإرهاق لميزانية هذا المواطن كما للدولة، فلا تُخلق الوظائف، ولا يحصل التحول الاقتصادي المأمول، كذلك لن يتطور القطاع السياحي السعودي، ولن تتولد الأفكار الترفيهية المتميزة، وسينشأ جيل لا يعرف من وطنه إلا مدينته ومكة المكرمة والمدينة المنورة، ستغدو بلاده بالنسبة له مكانا للسكن والدراسة والعمل، لا مكانا لصناعة الذكريات الجميلة وعيش اللحظات السعيدة.
لقد بات بعض المواطنين يصرح علنا بأن علاقته بالوطن باتت أشبه بعلاقة الأجنبي القادم بتأشيرة عمل إليها: بذل الجهد طوال العام لتجميع ما يكفي من المال الذي سيصرفه لاحقا في شهر أو أقل "يعيشه" خارج الوطن.
فلماذا إذًا نسافر بهذه الكثافة؟
سيحاول البعض أن يرمي باللوم على طبيعتنا الصحراوية الحارة وشمسنا اللاهبة والغبار والأتربة، وهي أمور لا يد لنا فيها، وكان يمكن تصديق هذا الادعاء لولا أننا نهرب من مدننا الصحراوية الجافة أو الرطبة، إلى مدن أكثر جفافا ورطوبة وحرا.
فالمنامة ودبي والدوحة وحتى الكويت العاصمة، تمتلئ بنا في عز الحر أو البرد، في الأعياد والإجازات وفي أيام الامتحانات! حتى لو كان عبور جسر المحبة المزدحم سيستغرق منك 3 ساعات كاملة! رغم أن دبي لا تحتضن الأهرامات، ولا تقبع أبوظبي على ضفة نهر الفرات، ولن تجد في أسواق الدوحة ما لا تجده في الرياض.
فلماذا إذًا نسافر لهذه المدن وإلى غيرها بهذه الكثافة والاستمرارية؟
هناك سببان رئيسيان، مرتبطان ببعضهما بشكل كبير: الأول، أن بلادنا للأسف ما زلت بدائية في البنية التحتية للسياحة مقارنة بالجيران، بل حتى مقارنة بدول من دول العالم الثالث، التي رغم فقرها، استطاعت أن توفر للسياح ما يبحثون عنه.
بيئتنا السياحية ابتداء من المطارات مرورا بوسائل النقل وصولا إلى أماكن الترفيه والفنادق، لا ترقى إلى الحد الأدنى المطلوب، والذي بات السعودي، من الطبقة المتوسطة وما فوقها يقبل به، وفوق ذلك تُقدم بأسعار هائلة.
ومن المؤسف، أنه كانت لدينا فرصة ذهبية في بداية الألفية للنهوض بهذا القطاع، خاصة في المناطق ذات الطبيعية المميزة والجو البديع صيفا كأبها والطائف.
أتذكر أنني زرت أبها وقتها ولمست بداية واعدة لأن تصبح محجا سياحيا، وكانت المنطقة آنذاك تمتلئ بالسيارات التي تحمل لوحات دول الخليج المختلفة، وكانت سبّاقة في بعض المشروعات السياحية العملاقة والجديدة كالعربات المعلقة. وكان اسم أبها على كل لسان، لكن سرعان ما خف الوجه، وصار الكل يردد اسم دبي بدلا منها.
إن افتقار المملكة إلى أبسط وسائل الترفيه، كدور السينما مثلا، يجعل السعودي يسافر إلى البحرين بشكل أسبوعي فقط ليشاهد فيلما حتى لو كان فيلم الأطفال: البحث عن دوري! ويدفع رسوم الجمارك وتأمين السيارة على الحدود فقط ليحقق هذا الهدف.
المسؤولون عن السياحة يروجون لها كمنتج "وطني"، يتم تسويقه من باب العواطف وحب الوطن، وليس من خلال تقديم ما يرضي السائح أيا كان، وهو ما فعلته دبي.
السياحة مثل الأكل والملبس، إن لم يناسبك الطعم أو المقاس، فلن تشتريهما بدافع الوطنية.
قبل بضعة أشهر، تم الإعلان عن إنشاء هيئة الترفيه، وهو أمر استبشرنا به لأنه تضمن الاعتراف–أخيرا- بأن الترفيه بات من ضرورات الحياة في بلد آمن مستقر، ويستحق أن ينال الرعاية والاهتمام، ولكن للأسف جاء الصيف وانقضى، والناس تسأل: أين الهيئة؟
أما السبب الثاني، ولعله الأهم، هو أن الحياة في السعودية فيها كثير من القيود والأنظمة واللوائح والتعاميم، وهي أمور نتعايش معها كل يوم، لأننا لا نملك خيارا آخر، وهي غالبا أنظمة وضعتها أجيال سابقة، وتعاني منها الأجيال الحالية، فحين ترغب في أن تستمتع بالإجازة فأنت تبحث عن كسر هذا الروتين وهذه القيود، وعن التحرر مما هو مفروض عليك.
وغني عن القول، إن ما أقصده هنا لا يعني التحرر من تعاليم شرعية لا لبس فيها، فكاتبة هذه السطور امرأة مسلمة متحجبة داخل بلادها وخارجها، ولا تبحث في الخارج عما ستخجل من القيام به في الداخل لو سُمح به.
لكن، حين تذهب للسياحة فتجد من يحصي عليك أنفاسك، وماذا تلبس، وكيف تلعب، وأين تأكل، فلا شك أنك –لو كنت مقتدرا- ستبحث عن بديل يسمح لك أن تكون أنت كما أنت، رقيبا على نفسك، وصيّا عليها وعلى أسرتك فقط، وليس على الآخرين وأسرهم.
وحتى يتغير الحال، سيظل السعودي في رحلة العودة من كل إجازة ينظر في التقويم السنوي عن موعد الإجازة القادمة، حيث تنتظره رحلة أخرى.. خارج الحدود.