قِـناع

نظرتُ جهة مكاني المنزوي في زاوية المقهى الشعبي، حيثُ أجلس دائماً وحيداً، منزوياً عن نظرات الفضول التي تتفحص الجالسين والداخلين والخارجين، وجدتُ مكاني مشغولاً، أجَلْتُ نظراتي في جنبات المقهى المزدحمِ بأكثر من طاقته، وقعتْ عينايَّ عليه، يلتف حوله مجموعة من الرفاق، يتحدثون ويتضاحكون، دعاني لمشاركتهم المكان، لم يكن أمامي سوى قبول دعوته أو مغادرة المقهى، أفسحوا لي مكاناً مناسباً، جلستُ مستمعاً، بينما يملأُ حديثه الضاحك ونُكاتُه ونوادره المكان، راق لي مجلسهم، وشاركتهم الضحك، وقليلاً من الحديث، أما هو فكان يحكي النكات ويضحك، ويغني، وينابز الرفاق بما لا عهد لي بسماعه من الكلمات، والألقاب، فيقابلونها بالضحك، ويردون عليها بأقسى منها..

استأذن أحدهم، وتبعه ثانٍ، فثالث، فآخرُ الرفاق، كنت أتوقع أن يتبعهم، ولكنه لم يفعل، بل انكمش في مكانه صامتاً، بدا لي على غير ما كان منذ قليل..

بادلتُ صمتَه غير المعهود بصمتي المعهود، أطلقَ آهةً عميقة، انشغلتُ عنها بمتابعة عمود الدخان الذي نفثته في حركة متموِّجة، نظر إليَّ كمن يريد أن يقول شيئاً، تجاهلتُ نظراته، فلم أكن راغباً في سماع شيء، تململ قليلاً ثم غادر المكان..


زاوية نظر

ممتلئة ردهات طوارئ المستشفى بالمراجعين، والأسِرَّة مشغولة بالمرضى، فلم يكن أمامي سوى الانتظار ريثما يفرغ أحد أسرَّة جلسات الأكسجين. جلستُ إلى جوار خمسيني يتململ، أخبرني أن ابنه كان يعبر الشارع نحو المسجد، حين صدمته سيارة مسرعة يقودها شابٌ طائش تسببت في كسر ساقه. لم يكمل حديثه فسرعان ما استُدعي لاستلام تقارير ابنه..

دَلَفَ شابٌ ثلاثيني قلق، تحدث قليلا إلى موظف الاستقبال، ثم اتجه إلى المقعد الشاغر بجواري فجلس، أردتُ أن أبدد قلقه الظاهر بالحديث، فأفصح لي عن سبب توتره، فأخوه موقوف في مركز الشرطة، بسبب صبيٍ أرعن قفز إلى الشارع فجأة أمام سيارة أخيه، الذي كان في طريقه إلى الجامعة..


ما زلنا ظرفاء

كمن يستيقظ في مكانٍ آخر غير الذي نامَ فيه، ويجد حوله أناساً آخرين غير الذين نام بينهم؛ وجدَ كثيراً من الناس الذين يعرفهم، والذين لا يعرفهم، سرَّه أن يحدِّق المتنبي فيه كمن يعرفه منذ زمنٍ بعيد، وسرَّه أن يخصَّه بسؤاله: "أما زلتم تروون أشعاري في نواديكم؟" تلفَّتَ حوله، قبل أن يجيب، ثم قال: "قلَّما نفعل ذلك"، شعر بامتعاض الشاعر الضخم، أراد أن يطمئنه أنهم ما زالوا كما عهده بهم، فأضاف باسماً: "ولكننا ما زلنا نحفّ شواربنا ونُضحك الأمم الأخرى"..