أعاني في هذه اللحظة التي أضطر فيها، بحسب الموعد المحدد، إلى كتابة مقالي الذي تقرؤونه اليوم من وعكة صحية. وأريد لهذه الحمّى التي تنتفض بسببها أصابع يدي على لوحة الحروف؛ أن تكون في الأفق الذي سيتجه إليه مقالي، فهي الأكثر إلحاحا عليّ من أي شيء آخر، إلا أن أعتذر عن الكتابة، ولا أريد أن أعتذر لأن تحدي الحمّى والرغبة في مراقصتها بالكتابة يهوِّنان من شأنها فتلطف قليلا، ثم تشتد، وبين لطفها وشدتها تسبح سحابة من الروقان، ربما بفعل المسكنات، هذه النعمة التي لا نتوقف عند شكرها، بفعل اعتيادنا عليها وقربها من أيدينا كل حين.
قبل قليل، اتصلت بي الوالدة لتطمئن على صحتي، وأعادت على سمعي ما قالته لي في اتصالها أمس: "اشرب مرقة... واخرج يهبُّك الهواء".
وهذه وصفات جاهزة في ثقافة المرض الشعبية ومتنوعة، وتبدو في جملتها مجتمعة على التأكيد على بعض الأطعمة والمشروبات التقليدية بأسمائها المتداولة، وعلى مقاومة الرقاد وتحدِّي السقوط في الفراش.
والوالدة -متعها الله بالصحة- من جيل لم يكن المرض في قاموسهم اسما للحميَّات البسيطة، ولم يكن يقعدهم عن العمل والخروج إلا مرض شديد الوطأة.
ولا أنسى فجيعة القرية، ونحن صغار، في إحدى الفتيات، عادت بغنمها قبيل الغروب في يوم ماطر، وتوسَّدت يدها ثم أسلمت روحها لبارئها.
قيل حينها: لم يكن أحد يعلم -حتى أهلها- إنها "مقرونة"، وقيل: إنها ماتت من تلبُّس قرينها الجني بها، وقيل: إن البروق والرعود في الليلة الماطرة أتاحت له "الفتك" بها.
وعلى أي حال، فقد كان حديثهم عن جمالها يبتعث الخوف على الجميلات جميعا من وقوع الجن في الغرام بهن، واختبال عقولهن، أو انتزاع أرواحهن.
هذا الأفق الذي تفتحه علينا نصيحة والدتي، وتفسير القرويين لموت الفتاة، أفق لا يحيل المرض إلى البيولوجيا أو الفيزيولوجيا كما يفعل الأطباء، بل يحيله إلى طبيعة في التصور والتعقل إطلاقية وثابتة وعشوائية ولا سببية أو برهانية. وهي الصفات المناقضة للفكر العلمي بما فيه فكر الطب الحديث الذي وصل إلى درجة من التنظيم المنهجي واليقين بالمعنى العلمي، وليس العامي "فأكثر الناس يقينا أكثرهم جهلا" كما تؤكد ذلك الملاحظة.
وعموما، قد لا تكون الممارسة الطبية خارج الصرامة العلمية مضرَّة أو عديمة النفع في الحالات التي يعجز الطب الحديث عن تفسيرها أو علاجها، والطب البديل Alternative medicine فرع واسع، له مشروعيته عند الأطباء، ضمن ضوابط محددة وخاضعة للرقابة والمتابعة.
يقودنا هذا إلى سؤال ثقافي عن سر الصدقية والقناعة المتفشية للطب الشعبي لدينا، وذلك بما يخرج عن حدود المشروعية للطب البديل، سواء في محتوى الطب الشعبي لدينا وأدواته، أو في الأمراض والمشكلات التي يتصدى لعلاجها.
فمن يتولون المعالجة يسمون "رقاة" لأنهم يمارسون العلاج بقراءة القرآن، ويسمون –أيضا- "المعالجين".
وليس أحد منهم يقف عند قراءة القرآن، بل يجاوزه إلى وصف زيت أو ماء مقريّ عليه، وإلى بعض الأعشاب والمركبات في علب مغلقة، وبعضهم يستخدم الكي أحيانا... إلخ.
أما موضوع المعالجة، فإنه يثير العجب، فهو في أمراض يجب التقيد فيها بالتعليمات الطبية، كالسكري، واضطرابات القلب، والاكتئاب... وما إليها.
ومن جهة أخرى، فإن المعالج يملك إحصاءً للحالات المعالَجة تشمل كل ما يمكن أن يشتكي منه أولا يشتكي منه أحد، من الصداع إلى نفور المرأة من زوجها، ومن أنواع السرطانات إلى كراهية الطفل للدراسة، ومن تفسير الأحلام إلى حل "مشكلة" العنوسة.
وإلى ذلك كله، فالمعالج على هذا النحو لا يقدر على نقل معرفته العجائبية هذه وتعليمها لتصبح لدينا نسخ متعددة مثله، متنافسة ومتصارعة على ما تتوصل إليه من حقائق، فالحقيقة هنا لا تتطور ولا يمكن تعليمها.
وهذا النوع من المعالجة الشعبية ليس سريّا بل يمارس علنا، وكثافة السيارات وجموع الناس عند مقرات بعضهم أمر مشاهد، وبعض القنوات التلفزيونية الشعبية السعودية تعرض إعلانات بعض المعالجين والمعالجات، وادعاءاتهم الخارقة وأرقام الاتصال بهم. وقد يتصور البعض أن هذه العلنية تعبِّر عن مشروعيتهم النظامية وحصولهم على تراخيص محددة وخضوعهم للمتابعة والرقابة، ولكن لا حقيقة لشيء من تلك المشروعية، ولا توجد أنظمة ولا عقوبات، ولا تحديد لنطاق المسؤولية عنهم، وليس في وارد أي "مريض" يقدم إلى أحدهم التساؤل عن التصريح، فالعشوائية والارتجال جوهريان لهذه الممارسة!
نعود من جديد لنتساءل عن سبب إقبال الناس على هذا النوع من المعالجة؟! وهو بالمناسبة إقبال يحدث في الدول المتقدمة، وبشكل لا يختلف في صدوره عن تصورات السحر والجن والعين... إلخ، عما يحدث لدينا، لكن ضمن حدود خاضعة للقوانين المنظمة في تلك الدول، وثقافة أكثر تثمينا –بما لا مجال للمقارنة- للعلم المادي ومكتسباته. وأظن أننا نتفق على فسحة هذه الممارسة، في حدود منظمة، في ما لا يملك الطب إجابة عنه، أما في غير ذلك، فإنه تدخُّل شديد الإضرار في برنامج العلاج المقرر طبيا، وينبغي أن يمنع تماما.
إن سبب الإقبال على الرقاة والمعالجين الشعبيين يتضمن مطلبين: أولهما: التباس أشكال المعالجة الشعبية هذه بالديني واتخاذها المشروعية منه، وذريعة ذلك مصطلح "الطب النبوي" أو "الرقية" أو أن "القرآن شفاء".
ومن يستعرض النصوص وكلام عديد العلماء "المساحة هنا لا تتيح اقتباسهم"، يتبين له أن الحديث عن الشفاء من مصدر ديني ليس على سبيل المفاضلة بينه وبين الطبي، ولا استبداله بالطبي، بل حديث عن البركة والروحانية.
والمؤكَّد أن تنزيل المتاجرة بالرقية وما يتبع ذلك من بيع سوائل مقريّ عليها، ومن احتشاد عند أشخاص لهم صفة المعالج الشعبي لكن بـ"قداسة" دينية، أمر مسيء إلى الدين وإلى المتدينين، لأنه دلالة على الاستغلال والإفادة المادية.
والمطلب الثاني: يتصل بالأول، فإذا كانت المعالجة الشعبية ملتبسة لدى الناس بالديني، فإن إقبال الناس على أشكال المعالجة الشعبية بسبب ذلك، ينم عن توهمهم نوعا من التعارض والتناقض بين الإيمان بالعلم الحديث وبين الإيمان بالدين، بحيث يلزم عن ذلك ضرب أحدهما بالآخر، وتكون النتيجة، في صدد موضوعنا هنا، الشك في العلم وضمنه الطب الحديث، واطِّراح أهميته.
وليس الأمر بهذه البساطة، فالإيمان بالعلم هو الإيمان بالأسباب والنواميس الطبيعية التي هي قدر الله المقدَّر، وحين يفر المرء من المرض المقدَّر عليه إلى العلاج، فإنه يفر من قدر الله إلى قدر الله، ولو لم يفعل عامدا لكان أشبه بمن قتل نفسه.
وهذا المنطق هو ما تضمنته محاجة عمر بن الخطاب لمن اتهمه بالفرار من قدر الله، لأنه طلب عودة الجيش من الشام بعد انتشار الطاعون فيها، فقال -عندئذ- قولته الحاسمة: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"، وهي مقولة شديدة الدلالة على المسؤولية الإنسانية: مسؤولية الوعي بالأسباب والإيمان بها، في أجلى صورها العقلانية والإيمانية.