في زيارة للنصب التذكاري لبرجي التجارة الدوليين في مانهاتن، واللذين تم قصفهما في 11 سبتمبر 2001، وقفت أستعلم موظفة الاستعلامات. تعمدت أن تكون بمفردها لتجنب أي نقاش أو ردة فعل أحدهم، خصوصاً أننا في ذلك اليوم على مقربة من الذكرى السنوية لهذا العمل الإجرامي المخزي الذي أفسد على المسلمين حياتهم، وأورث الأحقاد ضدهم بطريقة غير مسبوقة، وشوه صورتهم أمام العالم، فضلاً عما تسبب فيه من إزهاق أرواح بريئة، وقلب موازين دولية وغيرها من الكوارث التي ليس هنا محل حصرها.
أنهيت استعلامي من الموظفة، ثم تقدم أحدهم ليسألها، شعرت أنني قد أستفيد من سماع السؤال المطروح وإجابته، خاصة أن الرجل سأل قبل انصرافي، لذا انتظرت حتى نهاية المعلومة. انصرفنا معاً أنا والسائل غير أنه بادرني بقوله: "هذه أول زيارة لي لهذا الموقع رغم أنني مقيم غير بعيد من هنا". قلت: "وأنا كذلك لأول مرة أزور الموقع بعد الحدث المشؤوم". سألني من أي بلد فأجبته.
رغم أنني لا أحب الحوارات في مثل هذه المسائل، وخاصة مع الغرباء، غير أنني وجدتها فرصة للتوضيح سيما أن الرجل يبدو عليه النضج والثقافة العالية وقابلية سماع الرأي. قلت: هل تصدق أن بلدي تضرر من هؤلاء الإرهابيين أكثر من أي بلد آخر رغم أن عدداً منهم يحملون الجنسية السعودية؟ قال صحيح، خاصة أن التقارير تشير إلى 15 سعوديا من أصل 19 شاركوا في قصف البرجين هنا. قلت إذا سلّمنا بهذه التقارير فكم نسبة الـ15 أو حتى 1000 من بين 25 مليون مواطن سعودي يتبرؤون من أعمال هذه الشرذمة القليلة..
وأردفت: "ورغم هذا هل تعلم أن الإرهابي يرى أن المسلم أشد كفراً من غير المسلم لاعتقاده الجازم أن المسلم مرتد عن دينه! وهذا يشمل، في نظرهم، عموم المسلمين، لأسباب أولها أن المسلمين يوالون حكوماتهم التي يكفرها الإرهابي جملة وتفصيلا. وبالتالي فإن مليارا ونصف المليار مسلم على وجه الأرض مرتدون تاركون لدينهم، وفق العقيدة الإرهابية. والسبب الثاني، أن المسلم الذي يرفض مبايعة زعماء الإرهاب ودولة الخلافة المزعومة هو كافر مرتد حتى وإن كان مخالفاً لتوجه حكومته. وسبب ثالث وهو الأشد في نظرهم؛ أن المسلم الذي يعادي "الجهاد والمجاهدين" أخطر من غيره، سيما وهو يعلم فضل الجهاد وأهميته، خلاف غير المسلم الجاهل بهذا الأمر، مستدلين بالقاعدة الفقهية "العذر بالجهل"، فلا عذر حينئذ لمن علم وخالف عمله علمه، مع العلم أن الإرهاب الذي يمارسونه لا صلة له بالجهاد أصلاً".
رأيت الرجل مشدوهاً من تلك المعلومات فازددت حماسة في الاسترسال، قلت: "وإذا أذنت لي سأضيف معلومة أخرى سيدي. أشار لي بالسماح. قلت: نظرية الإرهابي تقول (العدو الأقرب أولى من العدو الأبعد). وحيث إننا الأقرب مكاناً والأشد اعتقادا أو (نفاقاً) كما يقولون، فإننا أولى بكل رصاصة إرهابية وبكل تفجير عدواني، ونحن أولى بكل العمليات الإرهابية بمختلف أصنافها، وفق الإستراتيجية المتطرفة السالفة -الأقرب والأبعد-... حضرت زوجة محدثي وتبادلنا التحايا، وهممت بتوديعه لينضم مع أسرته.. غير أنه طلب مواصلة الحديث..
شكرته وقلت: "لتعلم يا صديقي أن هؤلاء المتطرفين قامت إيران باستقبالهم وإيوائهم ودعمهم بعد عودتهم من أفغانستان، ولذا فهي التي استغلت تطرفهم نكاية ببلدك وبلدي وبلدان العالم أجمع، فهؤلاء القوم اجتمعوا على نظرية الموت لأميركا ثم الموت للسعودية، الموت للعالم بأسره عدا أشخاصهم رغم الاختلاف المذهبي بينهم والذي تلاشى أمام تقاطع المصالح"..
ودّعت صديقنا سميث الذي عرّف بنفسه لاحقاً، واتضح أنه أستاذ جامعي في ولاية مجاورة.
خرجت من الموقع، راجلا، وما هي إلا خطوات في الشارع المجاور للموقع المنكوب وإذا ببائع مياه متجول يغرينا ببرودة معروضاته في يوم شديد الحرارة، تناولت علبتي ماء لي ولصديقي غير أن البائع بادر بالسؤال المعتاد "من أي بلد أنت"؟ وما إن علم بعروبتي حتى قلب الموجة إلى اللسان العربي المبين، وبدأ يصب جام غضبه على الحكومات العربية ويكفرها بلا استثناء بما فيها بلده العربي! علمت أن الرجل تكفيري ناقم على الدنيا بمن فيها، وهو أقرب ما يكون إلى الأشخاص الذين حدثت "سميث" عنهم قبل مقابلته. أردت إقفال باب الحوار معه قبل أن "يلتم" الناس علينا بجوار المكان "المشهود"، سيما أن صديقي في الرحلة لم يكن في الأصل راغباً في زيارة الموقع "السبتمبري" هذا. قلت لبائع المياه: يا أخا العرب نحن شعوب لا حول لنا ولا قوة. قال صدقت... ومضينا في طريقنا وأنا أفكر في المساحة العقلية بين الرجل الأول والثاني. وكل سبتمبر والعالم أجمعه بخير وسلام.