مؤتمر غروزني يعيد للذهن دروس القومية العربية، فبقدر ما كانت القومية العربية متجسدة في حلم (الوطن) العربي، بقدر ما كانت الرابطة الإسلامية موجودة في حلم (العالم) الإسلامي، وعندما تحولت القومية العربية بفعل فاعل إلى كابوس تشظت الرابطة الإسلامية وكأنما ساطع الحصري قبل قرن من الزمان في العبارة المنسوبة إليه ينظر من شفق الغيب وهو يقول: "كيف يمكن لأحد أن يأمل بتكوين وحدة من البلاد الإسلامية التي تتكلم بلغات مختلفة، دون تكوين وحدة من البلاد التي تتكلم بلغة واحدة، ولا سيما التي تتكلم بلغة القرآن؟".
المؤتمر هو رد فعل شعوبي، على حالة شوفينية في الفكر العربي الإسلامي اتكأت على معطى جغرافي وعرقي واقتصادي لفرض مفهومها الخاص على مستوى الفهم الديني، فهي العرق الأنقى والتوحيد الخالص والدين الحق، فما الذي بقي لمليار مسلم؟! ورد الفعل الطبيعي هو تحالف الفرق الإسلامية على هذا الفهم التي استجلب ما يشبه التحالف العالمي من كل الدول بمختلف دياناتها، ولهذا فمن حق كل أحد البراءة من هذا الإقصاء الديني، ومن حقنا البحث عن طالب غير سعودي مشغول بهدم التماثيل في اليابان أو الصين كي نقول للناس: لسنا الوحيدين في فكرة تحطيم التماثيل، بل هناك شباب من دول أخرى يحملون نفس الحماقة، لنصبح منقبين عن حماقات العالم من حولنا بحثا عن عزاء عمومي في حماقات الآخرين لعلها تشغل العالم عن حماقات بعضنا.
لكن السؤال العالمي الصريح: ما هو الموقف السلفي السعودي من بقية الفرق الإسلامية الأخرى؟ وأقول السلفي السعودي لأن هناك سلفية الطاهر بن عاشور ومحمد عبده ورشيد رضا التي قد لا يقر لها السلفيون السعوديون بهذا اللقب، وقد يرد بعضهم بأن الفرق الأخرى تحمل في ثناياها نفس المأساة من الرغبة في تصفية الآخر أو تكفيره أو في حدها الأدنى تفسيقه وتبديعه، ولكن ما يغفل عنه كثير من قراء التراث أننا الدولة الوحيدة التي لا يوجد فيها مواطن مسيحي بشكل علني، ولا يوجد فيها مواطن يهودي بشكل علني رغم وجودهم تاريخيا في جنوب السعودية، أقصى ما لدينا مواطنون صوفية وإسماعيلية مسلمون، لكن الفهم السلفي العمومي الممنهج على أرض الواقع يضيق، دون معالجة المشكلة من جذورها بإصدار قانون يجرم الكراهية والطائفية، بل وصل الأمر إلى مهام وزارة الثقافة ممثلة بمعاناة جمعيات الثقافة والفنون مع الفهم السلفي في اعتماد برامجها الفنية على مستوى مناطق المملكة، لنجد جمعيات الثقافة والفنون في بعض المناطق عاجزة عن الاحتفال والفرح بنفس مستوى جمعية في منطقة أخرى، رغم أن وزارة الثقافة واحدة، وهدف إنشاء جمعيات الثقافة والفنون هي رعاية الثقافة والفنون بكل أنواعها في كل المناطق بنفس المستوى والنشاط.
سمعت حديثا راقيا لمعالي الشيخ صالح بن حميد عن الحوار ومفاهيمه، وكم أسعدني أن تعتمد السلفية السعودية على هذا النوع من الطرح والتجديد في التعاطي مع المختلف، وأن يكون هذا المسعى على المستوى التأصيلي والتشريعي، وليس على مستوى يذكرنا بما ورد في كتب التاريخ السياسي عندما تذمر بعض أهل مكة وجدة في بداية الحكم السعودي من بعض المتشددين في تحريم الدخان، وعندما طلب بعض العلماء العرب المناظرة حول تحريم الدخان حمية في الحجازيين، حضر لهم من يبين أن التحريم ليس نصا من القرآن، وأن المنع لأهل الحجاز من التدخين مبني على خوف الاعتداء عليهم من بعض أبناء البادية الذين يضيقون بالدخان ويظنون تحريمه ويفسقون شاربه، وقد بقي التحريم قائما، وبقي بيعه في المحال التجارية قائما أيضا، ليستعيد الصراع وهجه ويخفت على مجرد سيجارة إلى يومنا هذا، لم تستطع السلفية حسم موقفها من ذلك والتناغم مع مفهوم الدولة الحديثة حتى في سيجارة من التبغ! وليفعلوا ما فعله الفقهاء الأوائل الذين حرموا القهوة زمنا طويلا ثم انتهى الخلاف إلى اعتبارها من المباحات، بينما بقيت التحذيرات الطبية من الإسراف في تعاطي القهوة حتى هذه اللحظة، دون الحاجة إلى تدخل رجال الدين في ذلك.
السلفية يمكن أن تبلغ الذرى بعقل نابه متواضع وقلب مخلص نقي كسماحة الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وقد تبلغ في العنت أقصاه وضع من الأسماء ما تشاء، بدءا بمن جلد حمد الجاسر، رحمه الله، على إباحته لبس البنطال، وانتهاء بمن يكفر العباد والبلاد لوجود البنوك والمصارف في أرجاء الدولة الحديثة، أما مؤتمر غروزني فهو مجرد إشارة لضعف القومية العربية، وعليها اتكأ غير الناطقين بالعربية ليتزعموا مؤتمرا إسلاميا يبرؤهم أمام العالم من خيبات الواقع العربي الذي يقتل فيه العربي أخاه العربي باسم الإسلام، وليحضر بعض العرب هذا المؤتمر، بصفتهم براءة خجولة من واقع رديء، بني جلدتهم هم صُنَّاعه وعرَّابوه.