يبدو أن جدلية علاقة الدراما بالواقع ستعود للواجهة خلال الأيام القليلة المقبلة، خصوصا بعد إعلان فريق عمل مسلسل "حارة الشيخ"، البدء في تصوير جزء ثان خلال أيام، وذلك بعد أن أثار الجزء الأول منه الذي عرض في رمضان الماضي جدلا واسعا، بسبب رفض الكثير من المتابعين والأدباء والمؤرخين تصويره لمرحلة تاريخية مهمة تتجسد أحداثها في جدة، معتبرين ما ورد في المسلسل غير دقيق، ولا يمت بصلة لعادات وواقع تاريخ جدة؟

 إلى ذلك، رد بطل المسلسل الفنان محمد بخش، بالقول "النسخة الثانية ستستكمل الأحداث السابقة التي ظهرت في الجزء الأول"، مطالبا المتابعين بـ"عدم الاستعجال في الحكم على المسلسل قبل عرضه، وعدم إعطاء أحكام مسبقة، وانطباعات ليست في محلها"، لافتا إلى أن الضجة التي أعقبت العمل في نسخته الأولى "كانت جائرة وغير عادلة، وهذا يعود إلى عدم تفهم الكثيرين لطبيعة العمل التي استوحت الأحداث من الخيال". وهنا يطرح بعض الفنانين والنقاد العرب، رؤيتهم حول كيف يمكن الحد من الجدل حول تصوير الواقع في العمل الفني الدرامي، وبين الفعل الفني نفسه، الذي قد يعتمد الخيال والمبالغة.

 


فن الواقع


تحدث المخرج والناقد اللبناني الدكتور هشام زين الدين قائلا "بالنسبة لي أفهم هذا الأمر على النحو الآتي: "الدراما التلفزيونية يجب أن تنطلق من الواقع المعاش ومن قضايا الناس الحقيقية، وتعكسها على الشاشة بكل صدق وواقعية، في الإخراج والتمثيل والديكورات الحية ومواقع التصوير الحقيقية، لأن العامل الإيهامي المطلوب فنيا، موجود أصلا في الشاشة، وهذا ينطبق على السينما والتلفزيون. إن الدراما التلفزيونية ابنة الواقع بامتياز، سواء في الأعمال التاريخية أو المعاصرة، وعندما تخرج عنه تصبح تشويها له، لهذا السبب نجحت الدراما الأميركية وغزت العالم فيما عجزت التجارب العالمية السينمائية الأخرى التي ابتعدت عن الواقعية وعن جذب الجمهور، وعلى الأخص السينما الروسية التي لم تستفد من المدرسة الواقعية الروسية المنشأ وغردت خارج سربها. في المسرح يختلف الأمر جذريا، فأنا أعتقد أن المسرح بوصفه فنا حيا ومباشرا فهو يحتمل الخروج عن الواقع والجنوح نحو الخيال والتجريد والمبالغة المبررة إخراجيا وتمثيليا، لأن عامل الإيهام ليس موجودا فيه أصلا كمكان للعرض، لأنه مكان حقيقي وواقعي، أقصد الخشبة والصالة، والدراما المسرحية في هذا الزمن، بعكس الدراما التلفزيونية التي يجب أن تعبر عن قضايا ومشكلات الواقع، بأشكال وطرائق وأساليب تغريبية رمزية عبثية تشكيلية جسدية، تعتمد السيمياء والإيحاء والتجريد أكثر من اعتمادها على تجسيد الواقع بواقعية فنية".





ابن اليوم

قال المخرج والناقد الأردني خالد الطريفي "إنني لا أريد فنا ينقل الواقع، ولكن أريد أن أعيش الواقع بفن، وعندما تداخل مفهوم الواقع الذي نعيش ونحيا، مع مفهوم الواقعية الفنية، حدثت الطامة الكبرى في الفنون في بلادنا العربية، والدراما بحد ذاتها فلسفة للإبداع بأساليب مختلفة منها الواقعية، والفن عموما هو التقاط قيمة فلسفية أو اجتماعية أو فكرية ومعالجتها فنيا بأسلوب ما، منها الواقعية الفنية والمرجعية الواقعية، بحيث تبدو الشخصيات والأماكن والأحداث والأفعال، تجري فعلا في الواقع الزمني للفكرة في القيمة المطروحة للعمل الفني، وسأتحدث عن ذلك كابن اليوم، فالفن مرجعيته الخيال، وأدواته الواقعية، من واقع متخيل إلى متخيل واقعي، وهذا المعادلة التي تعمل على أن تجعلنا نعيش الحياة بفن، لا فن ينقل لي ما أعيشه كل يوم، فن يجعلني أتخيل إبداعا حياتيا جديدا، وتفكيرا جديدا وخيالا جديدا، ويقال فيما يقال عن النقد للفن والشعر والأدب "ليس بالشكل والمضمون يكون الفن، وإنما بالعمود الفقري الذي يجمعهما أي قيمة اجتماعية، هي مرجعية العمل الفني، وكيف عالج وقدم هذه القيمة بالأدوات الفنية الواقعية، ليكون الحل هو الفن".

 


جدل مفتعل

يقول الناقد المغربي الدكتور عبدالمجيد شكير "يبدو لي أن الجدل حول تصوير الواقع في العمل الفني والإبداع الفني الذي يعتمد على الخيال جدل مفتعل ومتجاوز على الأقل في الوقت الراهن، ذلك أن قطبي الجدل طرحا على طرفي نقيض في زمن مضى، حيث كان العمل الفني وصفتين إبداعيتين، إحداهما تجنح نحو الواقع، وبالتالي الانتصار للمضمون الفكري، الذي تحول في الكثير من الأحيان إلى بعد إيديولوجي، على اعتبار أن لا مشروعية لعمل فني، إلا إذا قارب الواقع وتصوره تصويرا دقيقا، يصل أحيانا إلى درجة النقل الميكانيكي لهذا الواقع ضمن الإبداع، ومرد ذلك إلى فهم غير سوي للواقعية، وإلى اعتقاد بأن الكتابة/الإبداع الصادق، هو المخلص إخلاصا مبالغا فيه للواقع، وهو الاعتقاد الذي غذاه الفهم السيئ للواقعية الاشتراكية على الخصوص.

وثانيهما يجنح نحو الاهتمام الجمالي والصياغة الفنية التي تبالغ في الصور والمجازات، والاهتمام الشكلي بالعمل الفني، وابتعاده الصارخ عن الواقع، ويكون مفارقا جدا لبيئة الإبداع، مفارقة تصل إلى إلغاء هذه البيئة بملامحها المختلفة (سياسية واجتماعية وفكرية/إيديولوجية).

ودأبت الوصفتان الإبداعيتان، على تكريس مظاهرهما وتوسيع الفجوة بين الواحدة والأخرى، حتى بلغتا درجة قصوى من التطرف، لكن مع تطور مناهج القراءة وتطور أشكال الكتابة والإبداع، تبين أن طرفي النقيض في الجدل، طرفان يتكاملان في الإبداع وصار العمل الفني مزيجا من مضمون فكري يستثمر الواقع ويحفر فيه ويدقق في قضاياه".