هو شيء مبهج ورائع، أن تبادر بضع دول وبضع وزارات خارجية وبعض منظمات العمل الإسلامي والعربي إلى إدانة واستنكار القانون الأميركي (ضد رعاة الإرهاب)، ولكن الحقيقة ستبقى أن هذا السيل من الشجب سيبقى مجرد (ملطف) هواء منعش أمام بحيرة آسنة وقذرة. سيتبخر كل هذا مع أول ملف دعوى تذهب إلى المحكمة. أعرف جيدا أن مشروع القانون المريب يحتاج التصويت في الغرفة الثانية من الكونجرس وقد يمر على الموافقة بهدوء، ولكنه يحتاج بعدها إلى توقيع وإقرار الرئيس الأميركي بالموافقة. أوباما أعلن بوضوح أنه لن يوافق على مشروع القرار ومع هذا أعتقد أنه سيتركه لخيارات الرئيس الذي يليه بعد بضعة أشهر. والخلاصة أن أمامنا طريق طويل وشاق، وللأسف لا أرى بوادر الخطوة الأولى على هذا الطريق إلا الاحتفاء بالاستنكار الوارد من هنا أو هناك وإعادة نشره على شريط أخبار قنواتنا المحلية.
ومن الواضح الجلي أن قانون (ضد رعاة الإرهاب) في التوقيت وفي الظروف ابتزاز سياسي، وإن لبس الثوب القانوني التشريعي. هو أقوى إشارة في تاريخ العلاقات السعودية الأميركية تشير وبوضوح، إلى أننا اليوم، لها ومعها، حلفاء من الدرجة الثانية، وعلينا أن ندرس الأخطاء التي أدت بهذه التحالفات إلى هذا الوضع. وقد يحلو لألسنتنا وصف القانون بما شئنا من مفردات قاموسنا، ولكن (اللغة) لا ولن تغير حتمية الصدام مع القانون ومطرقة المحكمة. علينا أولا أن ندرس كل مفردة في نص هذا القانون، وأن نستوعبه بفريق من المحامين وخبراء القانون الأميركي والدولي، وهنا أحذر من الخيارات التلقائية التي تذهب عشوائيا إلى (الهاتف) الذي نعرف أو القانوني الذي اعتدنا حفظ اسمه عن ظهر قلب. علينا ثانيا ألا نركن مطلقا إلى الاتكاء على وعود ساكن البيت الأبيض برفض تشريع قانون صادر عن (الكابيتول) حيث مقر الكونجرس. ساكنو البيت والتل المجاور له لا يتبدلون فقط في الأسماء والمناصب بسرعة كبرى، بل أيضا في الوعود والمواقف والتحالفات. أميركا لا تمزح وهي من برهن على الدوام أنها براغماتية تبيع حلفاءها وتشتري آخرين ببطء شديد قاتل. الذين يسكنون مكاتب واشنطن السياسية اليوم، وصبح صدور القانون، هم بكل تأكيد غير تلك الوجوه والأسماء والمناصب التي كانت بذات المكاتب صبيحة الحادي عشر من سبتمبر. رعاة القانون الجديد يتبجحون علنا أن القانون كان بلا رعاة أيام الاستماع الشهيرة في غرف الكونجرس قبل 15 سنة لنفس الحادثة. هؤلاء الجدد جاؤوا إلى مكاتب القرار الأميركي في زمن تغيرت فيه خرائط التحالفات وتبدلت فيه الظروف، وأيضا شبكات المصالح السياسية. هؤلاء ولدوا (سياسيا) في لحظة مضطربة للقوة الأميركية وهم شهداء على قوة يتراجع نفوذها السياسي أمام تضخم الدب الروسي وقبضته الفولاذية الصاعدة.
نحن في المرحلة الحاسمة من الزمن السياسي الذي يتشكل فيه مخاض ولادة خارطة عالمية جديدة. هي نهاية حقبة من التاريخ الراكد الذي استمر لقرن مضى وبداية رحلة من (الجغرافيا) السياسية الوليدة. هذا القانون بداية إشارة، ولعلي أختم بالعنوان الذي يختصر الفكرة: (أميركا لا تمزح).