في أحد الأجزاء التي تضمّنها فيلم وثائقي يناقش أسرار نهضة كوريا الجنوبية في العقود الأخيرة، يتلقّى نائب رئيس شركة (إل جي) الكوريّة سؤالاً متعلّقاً بعوامل امتناع نشوء تجارب صناعية في المنطقة العربية مضاهية لما يشهدها بلده، فيجيب استناداً على خبرته العمليّة بمنطقتنا بقوله: "الناس هناك لا يثقون ببعضهم. فعلى سبيل المثال لا يمكن توسّع الشركات العائلية عندهم لأنّ العائلة هناك لا تثق بغير أبنائها، أما الآخرون فهم خارج نطاق الثقة".
يومض ذلك المسؤول بشكل عابر إلى تأثير أحد مفاهيم الاقتصاد الحديث وهو (رأس المال الاجتماعي) كما أسماه فرانسيس فوكوياما في كتابه (الثقة - الفضائل الاجتماعيّة ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي)، وهو كتاب حاول فيه فوكوياما بجدية مناقشة أثر الثقافة على نموّ الاقتصاد وخصوصا ما يتعلّق بالبعد الأخلاقيّ منها. يذهب ذلك المفكّر الأميركي المنحدر من أصول يابانيّة إلى أن جوهر العمل الاقتصادي ما زال يقوم على قيمة الثقة، وأنّ تطور طرق الاحتراز الرقابي والقانوني لا يمكنه إزاحة الاعتماد على الثقة في التعاملات الاقتصاديّة. بقدر ما تشيع أجواء الثقة في أحد المجتمعات، تتعزّز فرص التنمية وتسير نحو الأفضل بسلاسة. بل إنّ الاعتماد على هذا الجانب يتجّه نحو التصاعد وليس العكس كما يتوهّم البعض.
ومن ذلك ما يزعمه من أنّ ثورة المعلومات التقنيّة التي شهدها العالم مؤخّراً قد أفادت بالدرجة الأولى البلدان التي تلقّتها على أساس من الأرضية الأخلاقية الواثقة، في حين أنّها أضرت بالمجتمعات متدنيّة الثقة في الوقت نفسه. يزعم صاحب الكتاب أن سرعة الوصول إلى المعلومة وتحرّر المعرفة ساهم في إضعاف الأنظمة الإدارية الهرمية القديمة التي كانت تعتمد في بنائها على سلطة امتلاك المعلومة. فبما أن الكثير من المعلومات صارت سهلة التناول فهذا يعني أن أغلب التعاملات الإداريّة ستجري في نطاق أفقي، خصوصا ما يتعلّق منها بتأسيس الأفكار الجديدة. هذا يعني ظهور مجالات عدّة يكون فيها نشوء شبكة من شركات صغيرة متّسقة بنظام معيّن أكثر جدوى من وجود شركة عملاقة يصعب السيطرة على نظام المعلومات فيها. وجود هذا المناخ العالمي الجديد يهيئ للمجتمعات التي تتمتع بدرجات عالية من ثقافة الثقة في أوساطها فرصة الصعود الاقتصادي وهو ما يزعم فوكوياما أنه قد أتيح لبعض بلدان شرق آسيا مؤخّراً.
ولكن ما هي العوامل التي تقف وراء ارتفاع ثقافة الثقة في مجتمعات وانخفاضها في أخرى. من المفهوم أن الانضباط الأخلاقي هو الأساس الذي تقوم عليه الثقة، فبقدر ما يألف الناس النزاهة تشيعُ أجواء الثقة بينهم. ولكن من خلال النماذج التي يستعرضها الكتاب يتبيّن أن قوة الروابط الاجتماعية لها أثر مهمّ في الأمر. أهم أنواع الروابط الاجتماعية في تعزيز ثقافة الثقة هي تلك القائمة على أنشطة اختيارية لا تسطو على فردانية الإنسان بحيث تتّسق قناعاته الفردية بالوسط المحيط به. هذا النوع من الروابط يتيح للإنسان أن يعيش بأقل مستوى من مستويات الازدواجية بين ما يفكّر به وما يفعله. هذا خلاف نوع آخر من الروابط يجد الإنسان نفسه متورطاً فيه دون اختيار منه، ممّا قد يؤدي إلى احتمالية نشوء تناقضات بين رغباته كفرد وحاجته إلى الاندماج مع وسطه، فتتشكّل لديه أنماط من الازدواجية يتسبب شيوعها في انخفاض معدلات الثقة بين أفراد ذلك الوسط بعد أمدٍ لا يطول من الزمن.
من الأفكار اللافتة في الكتاب تأكيده على البعد الإيجابي للدين في تعزيز الروابط الاجتماعية وأثرها الصحّي على الأخلاق. وهو ما أجدني موافقاً عليه بعد التأكيد على بُعدين في هذه القضية. الأول هو أهميّة توظيف الجانب الشعائري من الدين لصالح الجانب الأخلاقي وليس العكس. من المهم فهم ثانوية الشعائر عند مقارنتها بالقيم الدينية المؤسّسة وهو ما يمكن لمسه في القرآن الكريم بوضوح عند مقارنة مقدار ما احتواه من تأكيد على قيم أخلاقية بمقدار ما ورد فيه من الإشارة للشعائر. هذا ما يحتجب في بعض أنماط التديّن التي توحي بصلاحية تلاوة الأذكار كبديل عن التخلّق بالقيم الدينية الحقيقية. أمّا البعد الآخر وقد ألمح إليه الكتاب فهو أن الرهان في ترسيخ القيم الأخلاقية المستمدة من الدين قائم على ما يشيع بالاقتداء وليس ما يشيع بالوعظ. بل إن الوعظ قد يتناسب عكسياً في بعض الأحيان مع أثر القيم المفترض به تمثيلها على سلوك الناس.
ثقافة الثقة من أهم مقومات الرخاء الاقتصادي، ولكنّها منخفضة لدينا كما يزعم ذلك المسؤول الكوريّ. وهو زعم يحتّم علينا تصديقُه أن نعيد النظر في أغلب طرقنا التربوية من جديد، وخصوصاً ما يتعلّق بمساحات الحريّة الاجتماعيّة. يكون الإنسان موثوقاً كلّما تقلّصت ازدواجيته، وتتقلص ازدواجيته كلّما كان حرّاً.
بناة الإنسان في بلادنا: رأس مالنا الاجتماعي إلى أين؟