قبل عام، فُتحت الحدود الألمانية مع المجر لاستقبال مئات الآلاف من اللاجئين على نحو حاول الإجابة عن أسئلة إنسانية طرحتها المأساة السورية، ولم تُخفِ تبرما من سياسات الدول الكبرى تجاه واقع عربي جديد لبؤسه، إمكانية رسم وجهٍ مختلف لأوروبا والعالم.

خطوة ميركل بدت جريئة وغير إجماعية إلى الحد الذي قاد مسؤولين حكوميين إلى اعتبارها تكريسا لانقسام اجتماعي، يُضيف إلى المآخذ القائمة على المهاجرين وثقافاتهم أعباء تتصل بالملف الأمني والخوف على مقدرات البلاد، في ظل أزمة اقتصادية يعانيها جيران أوروبيون منذ عام 2008، وتدفع حزب "البديل من أجل ألمانيا"، الذي سطع نجمه في الانتخابات الإقليمية الأخيرة، إلى التركيز على لغة الأرقام، واقتراح ما يُبعد ألمانيا عن منطقة اليورو التي يرى الحزب أنها أضرت بدول أوروبا الجنوبية، وأغرقتها في فقر تسبب في اقتصادات مدينة.

على ضوء هذا، يصر حزب "البديل" على إخراج الدول المتداعي اقتصادها من الاتحاد الأوروبي المُطالَب هو أيضا بإعادة كثير من مسؤولياته إلى الحكومات الوطنية.

كما أن بث الحياة ثانية في "المارك" الذي ارتبط بنهضة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو أحد عناوين الحزب الموارة بالحنين، والماضية إلى "طوبى" ألمانيا الشرقية بكثير من السخط على ألمانيا اليوم.

تفوق حزب "البديل" على حزب المستشارة ميركل الديموقراطي المسيحي في الانتخابات المحلية في ولاية ميكلنبورج فروبومرن؛ أعاد إلى الواجهة ارتباطا وثيقا بين المعنى المحليّ في الانتخابات، وبعض الأسباب العابرة للحدود التي أوصلت الحزب إلى تمثيل أنصاره في تسع ولايات ألمانية.

البعد السياسي الحاضر في نقد الاتحاد الأوروبي يقيم في اكتناز الأخير ببيروقراطية تخلو من تمثيل ديموقراطي حقيقي، يتسق في هذا مع تصريحات مؤيدي الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، الذين أخذوا على الاتحاد إرهاقه ميزانيات الدول الأعضاء، وإضعافه مفهوم الدولة-الأمة في وقت تخضع فيه سياسات العولمة، في مجتمعات تشمل جهات العالم الأربع، إلى مساءلة تُصاحبها أحيانا برامج عملية لا تخلو، كما في حالة حزب "البديل"، من توسل الماضي القريب لترويض ما تراه وحشا عولميا يلتهم الطبقة العاملة التي -بدورها- تجد في أحزاب مثل "البديل" صوتا يُعلي من شأن حقوقها، ويحذر من استغلال "الآخرين" لدولة الرفاه، في مواجهة طبقة حاكمة تجد في الشعبوية المتعاظمة خطرا يضرب النسيج الاجتماعي في مقتل.

ورغم أن الحدود التي قلصت شعبية إنجيلا ميركل إثر فتحها أمام اللاجئين، خاصة في الأجزاء الشرقية من ألمانيا، لم يكن عابروها من السوريين أوالمسلمين وحدهم، إلا أن حزب "البديل" أخذ الوجود الإسلامي في البلاد إلى أمداء تقرن الغد المشرق بأفول نجم الرموز الإسلامية، وتطالب بحظر بناء المساجد، وإيقاف دروس السباحة للنساء اللائي يرتدين "البوركيني" (حدث هذا في مايو الماضي قبل أن تشيع من فرنسا مداولات البوركيني والعلمانية)، وتندد بالمستجيبين لدعوات منع بيع لحم الخنزير في روضات الأطفال؛ ناهيك عن أن رفض عضوية تركيا، المنظور إليها علمانية، ليست ملائمة للتعريف الأوروبي وإسلامية أكثر مما ينبغي، غير "قابل للتفاوض".

المفارقة أن القادمين من بولندا وروسيا إلى ميكلنبورج يشكلون أغلبية المهاجرين، حتى لتبدو مقارنتهم بأعداد الشرق أوسطيين هزيلة جدا؛ ومع ذلك فإن الصدام الذي تسعى بعض القوى اليمينية إلى تصعيد لغته ضد كل ما يُذكِّر بالجغرافيا المحصورة بين "داعش" و"القاعدة"، هو مما صير إلى توكيده في الرسائل الانتخابية كسلاح فضاء عام ضد الإرهاب و"منابته"، مُعبرة عن حرب ثقافية فعلية تطال حتى المهاجرين الملتزمين بقوانين البلاد الذين لم يُسمع على ألسنتهم أو تكتب أقلامهم ما يهدد الأوطان المضيفة.

يُضاف إلى ذلك، استغراقٌ في الهوى الروسي عبر تأييد "المبادئ" المسافرة إلى الشرق الأوسط وشبه جزيرة القرم، والمجسدة تفتيتا وأراضي محروقة، وتحمل الماء إلى طاحونة الاستقطاب الأميركي-الروسي عبر تكثير حلفاء موسكو الرامين إلى تقويض السردية الليبرالية التي يستند إليها حزب المستشارة ميركل، وتُرّد إليها شرور الحدود المفتوحة، من غير أن ننسى الغضب الذي يبديه بعض أعضاء "البديل" على الناتو، بزعامة واشنطن، الذين لم يُخفوا رغبتهم في انسحاب بلادهم منه.

صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" في الانتخابات المحلية ذكَّرَنا بأن مفهومي الشرق والغرب اللذين حاولت الوحدة الألمانية التخفيف من حدتهما، حلّ محلهما وجها عملة جديدة: أحدهما، مع مظاهر الاندماج والسياسات المُتسامحة مع الخلفيات المنتسبة إلى غير التراث اليهودي-المسيحي، والآخر، ضد أي واقع لا يُظهر الصورة القوميّة "نقيّة" وعصيّة على تجاوز أناها!