كلما خالطتُ جماعةً أو تنظيماً أو ديانةً أو مذهباً أو حزباً وجدتُ أن كل تلك التفريعات والانقسامات تؤمن يقيناً بما نشأت عليه من يقينيات ورسوخ مبادئ، وما تعلمته هي في بيئتها وما تعلقت به أذهانها في ظروف تلك البيئة.
إنها حقيقة مسلمة لكل متبع جماعة أو تنظيم أو ديانة أو حزب، وتلك المسلمة هي أن ما تحيط به من اعتقادات تخص أصول التدين والتمذهب والتنظيم هو يقين قطعي، وما عداه هو ظن بقيمة الوهم تخالجه الشكوك والاضطرابات النفسانية التي تُحيق بها الأرواح الميتافيزيقية (الماورائية للطبيعة).
فتذكرتُ زمناً وأياماً في بلاد العم سام، حيث قدمتُ من خلفية الدراسة التقليدية في أيام مضت لدى بعض علمائنا التقليديين، ومن ثَم الدراسة الحديثة في الجامعات في صورتها التقليدية بيد أنها اختلفت في الأوضاع والأشكال، فجئتُ من ثقافة تقطع باليقين أنها الأحق بكل صواب رأي وكل يقين فكري يتعلق بكل أشكال التدين والفهم في التحزب والتنظيم، وبين الثقافتين القطعية اليقينية والظنية الاحتمالية كانت الفهوم الإنسانية قد تجاذبت تلك الثقافتين.
فيكاد المرء يظن أنه حاز كل المعرفة اليقينية والقطعية التي يُجادل بها عن ظاهرية النص وعدم حمله لأي معنى أو احتمال آخر، في مرحلة من أخطر مراحل المعرفة اليقينية المكتنزة بالنص الديني المُحاط بالبيئة الداعمة لثقافة أُحادية النص وقطعية المعرفة المذهبية مع يقين الرؤية والمنهج.
كانت خطورة الرؤية الأحادية مأخوذة في ظني المتعمق من خلال تجربتي وتجربة أبناء جيلي على الأقل من ركون الصحوة الدينية لظاهرية النص ونبذ كل مذهب وفهم فقهي، وأنه تم انتزاعها من الفكر الظاهري من خلال ما روي عن أئمة أهل الحديث وما تقرر في كتب ابن حزم وابن تيمية، وهذه الظاهرية تكون مدفونة في نظر كثير من التيارات من حيث التأصيل المعرفي لدى تيارات الصحوة الدينية ذات النزعة السنية، وهي طريقة أهل الحديث ومعرفة علله وصحة أسانيده وتتبع مرويات الرجال وأقوال أئمة الجرح والتعديل، فقد كانت تلك طريقة من طرق المنزع المنهجي للتفكير، وهي مسار من مسارات التفكير الديني المتعدد المذاهب والمتلون بعمق الرؤى الفقهية والعقدية، وكانت تتجاذب تلك المسارات طرق التفكير العقدي المختلفة عن طريقة الصحوة ذات الانتساب السلفي، مثل طريقة فهم النصوص لدى المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وهي تبتدئ من مسألة حجية العقل وقدرته على التحسين والتقبيح بين مذاهب عريقة مثلها أصحاب عقول نيرة في كل مسار من مسارات تلك المسألة التي تعمقت كثيراً في عصرنا الحاضر وأصبحت خطراً لمن يقترب من بحثها وإعادة النظر في مساراتها.
كان المسار المنهجي المعرفي لدى العلماء سواء في الطريقة التقليدية أو في الدراسات الأكاديمية يصور أن مذهباً واحدا لديه الحقيقة المعرفية اليقينية والقطعية في مسائل الاعتقاد وكيفية الوصول إلى المسائل الفقهية التفريعية، وذلك تأسيساً على أن التمسك بظواهر النصوص هو اللازم لتحقيق أصل التدين ومحاربة التأويل وما يتفرع عنه من أصول معرفية لدى كثير من العلماء المتقدمين من فقهاء أو أصوليين أو علماء في اللغة -أعني علماء النحو والصرف والبيان مثل المجاز- وتوسيع دلالات فهم النصوص ومسائل العقل وقبوله كأصل تأسيسي للوصول إلى المعارف الدينية سواء الأصولية أو الفقهية وفرزها تأسيساً على تلك الأصول المنهجية والمعرفية التي تتوسع في استيعاب دلالات النصوص.
وذلك المسار المنهجي في فهم النصوص والمعرفة الدينية قد أسس سواء -بوعي أو بغير وعي- لعدم قبول الآخر المختلف في المذهب والطريقة، ونبذ كل المخرجات المعرفية التي تأسست على أصول المذاهب الأخرى، مما جعل التأصيل المعرفي "لا يتأسس على قواعد صلبة في الفهم والاستنتاج وطرح الأسئلة ومعرفة مثارات الغلط في الأدلة عند فهم النصوص"، مما سهل الانقياد لأفكار خطيرة جداً مثل أفكار الجهاد والتكفير والخلافة وكيفية التعامل مع الآخر، وظهور علامات الضيق والضجر لدى ثلة من العلماء والمتعلمين عند مناقشة أفكارهم وأطروحاتهم، بل إن القاعدة الكبرى التي يتسلح بها من صارت أفكاره وأطروحاته مجالاً للنقد هي التكفير والتخوين وسوء الظن والمقصد في من يدرس تلك الأقوال ويجعلها مجالاً للتشريح النقدي، وذلك لأن أصحاب تلك الأفكار والأطروحات التي تم نقدها وتشريحها كانت طريقة تلقيهم للعلم هي الطريقة الأحادية والحدية وتغليف كل الأفكار بأنها قطعيات ويقينيات وأن من خالفها تعدى وفرط في تجاوز الأصول الدينية التي تأسست على النظرة الأُحادية المتمسكة بظاهرية النص دون أي اعتبار لدلالات اللغة والفهم العربي لسياقات النصوص. وقد أنتج ذلك شباباً يحمل فكراً حدياً قاطعاً يتصف بسرعة التنفيذ للأفكار وتحويلها إلى واقع منظور أنتج الفكر الإقصائي المتطرف.
ولا شك أن تغييب ما لدى العماء المختلفين سواء في الاعتقادات التأصيلية أو في القواعد الأصولية والفقهية ووصم أصحابها بالخروج عن الطريقة الصحيحة هو تأسيس وتعزيز للمنهج الذي يتأسس عليه كل فكر تكفيري يؤسس لأفكار الجهاد والقتال المسلح، وهذه حقيقة ملموسة لم تعد خافية على أي متابع لمسار حركات التطرف الفكري التي تنطلق من امتلاكها لكل الحقائق، فما لم تتأسس معالجتنا للأفكار المتطرفة على قبول الأفكار المختلفة في العقائد والفقه، وأن لها حظاً ووجهاً من النظر الأصولي والفقهي الصحيح الذي تحتمله دلالات النصوص ومقاصد التشريع كي يتم توسيع قاعدة الفهم لتأويل النصوص الدينية، وأنه لا يمكن لفهم أُحادي حاد أن يُحكم قبضته على نصوص التشريع واطراح كل فهم أو تأويل غير مبالٍ بدلالات اللغة وأصول المعرفة من حيث التأويل وتحقيق علم البيان والبلاغة بدلالات المجاز، فإن الأفكار المتطرفة لن تنتهي من عالمنا المعاصر، وسوف تتشكل جماعات وفرق متطرفة مكتنزة بأصول التكفير وأفكار الجهاد والكفاح المسلح تنتهج مساراً أعظم شناعة من تنظيم (داعش)، لأن التأصيل المعرفي ينطلق من ذات القاعدة المعرفية التي تتسم بأُحادية التفكير والتنظير.