لا يوجد في أدب الرحلات وتاريخها شيء يفوق خيالات رحلة الحج. ربما لأن هذه الرحلة التاريخية في حياة الإنسان هي الرحلة الوحيدة في الدنيا من أجل خير الآخرة. هي رحلة البسطاء لا المستكشفين. هناك أشياء مما قرأت:

ولد مصطفى في قرية سورية صغيرة شمال غرب مدينة حمص. حمله والداه طفلا مع أختيه إلى المهاجر السورية التقليدية في الأرجنتين في العام 1913 للميلاد. كان طفلا في سن التاسعة وهو يتنقل بين الموانئ، من بيروت إلى ليفربول ومنها إلى نيويورك ومن هناك إلى بيونس آيرس. في مذكرته القصيرة يقول:

لا أتذكر من طفولتي سوى طحالب الموانئ وطيور النورس ورائحة البحر. عاش مصطفى مع والديه وأختيه راعي أغنام في سهول جنوب الأرجنتين، وبالضبط هي نهاية الأرض، وهنا اقبضوا على شعر رؤوسكم حين يقول: (كان والدي ينهار في نوبة بكاء ضحى كل يوم جمعة وهو يقول: رب كيف أرسلتني إلى المنفى في هذه البراري فلا أحد معنا ليردد "لا إله إلا الله محمد رسول الله..". كان والدي يصدح بأذان الجمعة، يصلي ركعتين ثم ينهض للخطبة، فلم نكن معه مجرد مأمومين أربعة فحسب، لأن (الأغنام) تلتف من حولنا في خشوع مهيب فكأنها معنا نفوس مؤمنة. مات أبي بعد أن ردد وصيته علينا لألف مرة: خذ أمك وأختيك إلى مكة المكرمة، ولا تعيشوا من بعدي ذات عذاباتي حين أخطأت أمام عيني بوصلة الهجرة. مشينا على الأقدام ألفي كيلومتر إلى ميناء (أوساسنا) في أقصى شمال الأرجنتين. كان (رحم) أمي ينزل من أحشائها الطاهرة نازفا، وكنا نعيده لمكانه بأيدينا أربع مرات في اليوم الواحد. ماتت والدتي في وسط (الأطلسي)، وما زالت أمامي ماثلة كل دقيقة حين كفنتها ثم رميتها بمساعدة أختي إلى وسط البحر. ما زلت أتذكر أكوام الأسماك حول جثتها منذ الثانية الأولى وهي تصل سطح المحيط اللجي. تركنا أختي الكبرى عجوزا مريضة في نيويورك، وما زلت أتذكر يدها اليسار تودعنا إلى أن غابت معالم الميناء فلم أشاهد أختي بعدها، وإلى الأبد. ليفربول.. جبل طارق.. ثم الإسكندرية، حيث قضيت هناك أربعة أشهر ثم غادرتها قبل أن تغرب شمس ذلك اليوم الذي دفنت فيه أختي الأخرى في مقبرة اسمها (الرمل). هنا تبدو ملامح مدينة اسمها (القنفذة) ومرة أخرى لا نعرف نهايات الرحلة إلا ببشائر طيور النورس حين نقترب من ميناء أو يابسة. هنا بيوت من القش والصفيح وجبال من الرمل الساخن الملتهب. وصلت مكة المكرمة منتصف المساء. بقيت على أطرافها عمدا لأن (الضيف) لا يجب أن يرى (المضيف) إلا مع أنوار الفجر والصباح. كانت "لا إله إلا الله" تملأ المكان، فكانت ترفعني إلى ملكوت خيالي، وكنت أبكي على قدر أبي الذي عاش وهو يرددها وحيدا ويسمعها وحده. كنت أشعر بالحزن على كل دقيقة تغيب فيها عيناي عن الكعبة لأنها حلم أبي وأمي وأختيَّ، بل أكاد أقول حتى حلم الأغنام التي كانت تحوم واجمة حولنا ذات زمن في براري المنفى والغربة. كنت أسأل قوافل الحجيج الصغيرة القادمة من سوريا عن أهل أبي وقريته، وبلا جواب، حتى وصل الجواب الأخير كالصاعقة: ما زالت جدتي على قيد الحياة تسأل عن ابنتها المهاجرة إلى المكان الأخير على وجه هذه الأرض... بكيت.. لأن الأم تسأل عن ابنة تنام قطعا متناثرة في جوف الأسماك.. في الأطلسي.. وفي رحلة الحج.