فهم بعض العرب معنى الورطة بالشعارات القديمة للقرون الوسطى وآخر استخداماتها في الدولة العثمانية بمعنى (الأمة الإسلامية)، فحاولوا اللحاق بشعارات جديدة تتناسب وواقعهم، فكانت الشيوعية وبناتها الفكرية بشعاراتها المتنوعة آنذاك ترفرف على استحياء داخل العراق فلا يرتاح لها بال حتى تنتهي الملكية هناك، لينتبه الغرب لخصمه القادم الجديد فيستعيد نفس السلاح الذي حاول استخدامه العثمانيون، فالعثمانيون في الحرب العالمية الأولى، هددوا باستخدام سلاح الفتوى بإعلان الجهاد العام عبر ما سمي آنذاك بالجامعة الإسلامية عبر رابطة مقرها إسطنبول التي ارتبطت بالجماعات الصوفية (رفاعية، قادرية، مدنية، قادرية)، وصولاً للشمال الأفريقي ضد الاستعمار الفرنسي والإيطالي والإنجليزي، لكن الغرب قرأ المشهد جيداً، ليعلن العثمانيون الجهاد متناسين أن هذا الإعلان بهذه اللغة القديمة التي تتناسب وعالم العصور الوسطى أيام الحروب الصليبية، لن يجدي نفعاً مع بدايات العصر الصناعي في الغرب ودراسات الاستشراق، لنرى الغرب وقد قام بدعم إسلام عربي يريد الثأر من الإسلام التركي، ليتصارع الإسلامان فنشهد حركات التحرر الدينية في كل أرجاء العالم العربي، ليصارع الإسلام التركي بمسحته الصوفية عدوه الآخر في الإسلام العربي بمسحته السلفية، ليصفي الإسلاميون بعضهم، بإشراف القوى العظمى آنذاك، ويبقى الإسلام المناسب لمقاس الغرب في المرحلة الماضية آنذاك، وهنا تبدأ قصة فرانكشتاين الملتحي صاحب الكتب التي تبيح قتل المخالف على أدنى شبهة وفي ثناياها العداوة القديمة للإسلام التركي ذي المسحة الصوفية، والذي صنعه الغرب وأجاد التعامل معه منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى هذه اللحظة، ليعيد على رؤوسنا لغة التقسيم الجديدة، ولم يحتج الأمر من الخبراء الغربيين في هذا العصر سوى الرجوع إلى التقسيمات الطائفية القديمة، ليستنبتوا خلافاتنا الجاهزة، ولتسمع عن الخلاف الحديث بين بعض الدول العربية وإيران وقد أصبح خلافاً مع الدولة الصفوية، بينما وراء الإيرانيين وطموحهم خطوط حمراء، كالخطوط الحمراء التي حاول صدام تجاوزها مع الكويت فأصبح في طريق الهاوية.
النهضة يجب أن تكون ذاتية، وما صنعه هتلر هو الاستثمار في الإنسان الألماني، بنفس المستوى الذي استثمرت به الشعوب المتحضرة في أبنائها، لكنه داء العظمة إذا أصاب الرأس استجاب له الجسد، لكن الألمان تعلمهم من أخطائهم ونقدهم الذاتي أعلى وأذكى من غيرهم، والسبب هو المشوار الحضاري لفلاسفتهم وعلمائهم، فقد تجاوزوا تقاليد القبائل البدائية في ثنائي الزعيم وساحر القبيلة التي انتهت بتشكلاتها وبقيت تمظهراتها لدى العرب بأشكال ومسميات أخرى فقط، دون أن يلتفتوا لبنية العقل العربي، والتي يجب أن تتجاوز فكرة الزعيم والساحر، لتعتني بكرامة الفرد دون زعامة زمانية أو روحية، فالفرد صوت قائم بذاته في مجتمع الأصوات ليعطي ثقته لمن يشاء وينزعها عن من يشاء، أما ضميره فبينه وبين السماء دون إشراف ساحر القبيلة.
كنت أقول لأحد المتذمرين من عمله الحكومي رغم مرتبته الرفيعة: وظيفتك الرفيعة تجد مثلها في بوليفيا ونيبال أو السويد والدنمارك، والفرق الذي تبحث عنه في استحقاقات المكانة الاعتبارية التي ترجوها لنفسك، ينطلق من المواطن الذي تقع معاملته بين يديك، فما دام المواطن في نظرك لا يستحق الاحترام لأسباب متنوعة في ذهنك، فستكون أنت في نظر من يعلوك مرتبة لا تستحق الاحترام لأسباب متنوعة في ذهنه، وهكذا هي تراكمات الاستعباد ومبرراتها الفردية بلا قانون يجرمها، لتجد نفسك تتألم كما يتألم من هو في مرتبتك في بوليفيا ونيبال من دول العالم الثالث، ولكن إن رأيت المواطن صاحب حق وله كل الحق وفق الأنظمة مع مراعاة الكرامة الإنسانية لهذا المواطن في كل حالاته ظالماً أو مظلوماً، فستكون أنت وفق هذا المعطى كأمثالك ممن يحملون نفس مرتبتك في السويد والدنمارك من العالم الأول، إن حقيقة النهضة كرامة الإنسان ومدارها هذه الكرامة الإنسانية للمواطن دون تمييز عرقي أو مذهبي أو طائفي، وأي شعب يستطيعها فأرضه ستكون مهوى الأفئدة لكل الفارين بمعتقداتهم المختلفة من الاستبداد والتمييز والفقر والجهل والظلم، والهايد بارك تشهد على عجائب وغرائب هؤلاء من كل أصقاع الأرض.
كذلك هي القصور العالية لها ظل وارف يستظل به المحتاج الضعيف من كل الخلائق المسلم والمسيحي والبوذي، بل وحتى الدواب والطير وكل كائن حي سيجد له محلاً في ظل القصور العالية للحضارة الإنسانية الراقية التي لا يضيق ظلها بأحد، وهذا مجد القصور وسر عظمتها في سواعد أبنائها، وصدق الشاعر العربي: "جعل قصر ما تفيي ظلاله ينهد من راس عاليه للساس"، وما زال الغرب يستقبل العرب مهاجرين ولاجئين منذ 100 عام وحتى هذه اللحظة.