فيما تستشرف الحكومة السعودية آفاقا أرحب لرفاهية مواطنيها، وتكثف جهودها لضمان مستقبل أفضل لأجيالها المقبلة، وتفعِّل مشاركتها العالمية في قمة العشرين، بهدف التوصل إلى نظام اقتصادي وتجاري جديد، يتيح مزيدا من الفرص أمام الدول النامية، ويقلص الفجوة بين الدول الأكثر ثراء في العالم، وتلك التي يموت أبناؤها بفعل الجوع والفقر والمرض، وتستقبل في الوقت ذاته الملايين من ضيوف الرحمن، الذين أتوا إلى هذه البلاد المباركة من كل حدب وصوب، وتسخِّر كل إمكاناتها لخدمتهم وضمان أمنهم وراحتهم وتمكينهم من أداء شعائرهم، وركن الحج الأعظم، بكل أمان ويسر، ما يزال الذين اسودت قلوبهم وأظلمت وجوههم وتوقفت عقولهم، بفعل الحسد والحقد، يواصلون الكيد الرخيص للمملكة، ويحيكون المؤامرات الخائبة التي ترتد إلى نحورهم، وتؤجج في دواخلهم غيظا يأكل جوانحهم، ويحرق أعضاءهم. من أشكال الكيد السياسي التي ابتدعها البعض، تهديد السفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية الذين كانوا على الدوام محميين بموجب الاتفاقيات الدولية، إلا أن التحركات الجادة للسفير السعودي في بغداد، ثامر السبهان، أقضّت مضاجع حملة لواء الطائفية، وأصحاب الأجندة المذهبية الضيقة الذين يرون الجزء أكبر من الكل، ويقدمون الوسائل على الغايات النبيلة، ويسارعون إلى تعظيم أوجه الخلاف الضئيلة، ويتجاهلون الاتفاق العظيم، فتداعوا إلى إطلاق تهديدات بحق السفير السعودي، وأرغوا وأزبدوا، وعندما لم تجد تهديداتهم الجوفاء نفعا، ولم تحرك شعرة في رأس السفير الذي آمن بأهمية التضامن العربي، ومضى في تنفيذ مهمته الدبلوماسية، بلا خوف أو وجَل، لجؤوا إلى تحريك اللوبي المذهبي الذي بات –للأسف الشديد– يتحكم في مفاصل القرار السياسي العراقي، فطالب وزير الخارجية، إبراهيم الجعفري باستبداله وتغييره، وارتفعت نبرة التهديدات، إلا أن عشائر العراق وكياناته السياسية التي لم تبتلى بداء العنصرية والطائفية، تنادوا ورفضوا لغة التهديد والوعيد، ولوّحوا باتخاذ موقف مضاد.  ولو أن تلك التهديدات اقتصرت على أصحاب الأجندة الإيرانية لما استحقت عناء الرد، ولكن مسايرة الجعفري تلك الدعاوى مثَّل وصمة في جبين حكومته.

لم تكد تمض فترة وجيزة، حتى وقعت حكومة بغداد في سقطة سياسية ودبلوماسية كبرى، عندما استقبلت -بدءا من وزير خارجيتها ومرورا برئيس وزرائها، حيدر العبادي، وانتهاء برئيسها فؤاد معصوم- وفد الانقلابيين الحوثيين الذي زار بغداد، وهي الخطوة التي أثارت استغراب بعض المراقبين السياسيين، كون تلك الاستقبالات تتناقض مع الإجماع الذي قررته جامعة الدول العربية، برفض الانقلاب الذي قاده الحوثيون وحليفهم المخلوع علي صالح، والتمسك بالحكومة التي يقودها الرئيس عبدربه منصور هادي، بوصفها حكومة شرعية جاءت عبر انتخابات شفافة شهد بها العالم.

إلا أن المتابع للأمور عن كثب، لن يجد غرابة فيما أقدمت عليه حكومة العبادي، لا سيما بعد أن بات قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، هو المسيطر على قراراتها، والمحرك الرئيسي لها، انطلاقا من منصبه الغامض كمستشار عسكري للحكومة العراقية، وكأن أرض الرافدين، التي كان جيشها ذات يوم قريب أقوى جيوش المنطقة، وأذاق الإيرانيين الويل في حرب السنوات الثمانية، ليس به من يستطيع تقديم استشارات عسكرية!

وللأسف، فقد أصبح العراق، ورقة تلعب بها إيران في سياق حساباتها السياسية، فاستباحت أرضه، وأنشأت الميليشيات الطائفية، ووفرت لها الأسلحة والعتاد، ووجهت أموال البلاد لتمويلها وتوفير رواتب عناصرها، الذين لن تكون حماية العراق جزءا من مهامهم، بل تنفيذ الأجندة الإيرانية، وتهديد دول الجوار، بتعبئة مذهبية استدعت الثارات القديمة والأساطير التي أطلقها بعض أرباب الشر وصدقوها قبل غيرهم. ومن المؤسف أن تلك الميليشيات الطائفية المسماة بـ"الحشد الشعبي"، لم تجد من تبدأ به عدوانها وأنشطتها المرفوضة سوى العراقيين أنفسهم، فاستهدفت النازحين البسطاء الذين كانوا بالأمس يعانون تحت حكم الدواعش، وذاقوا الأمرّين، وعندما استبشروا بقرب خلاصهم من ذلك الكابوس، فوجئوا بأن من أتوا ليحرروهم كانوا أشد قسوة وأكثر ظلما. فسُلبت أموالهم، وصودرت مزارعهم، وهدمت منازلهم، بدعاوى طائفية واهية. وللإنصاف، فإن تتبع بغداد لمحور طهران لم يبدأ في عهد العبادي، فقد سبقه إلى ذلك رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي فتح خزائن بغداد العامرة أمام طهران، عندما كانت العقوبات الدولية تخنقها، وتجفف شرايينها المالية، وهو ما أدخل العراق في دوامة مشكلات مالية نا زال يعانيها، وجعله يذرع دول العالم بحثا عن قروض ومساعدات، وهو الذي كان بالأمس أحد أغنى دول المنطقة. إن كان الوقوع في فخ المذهبية والنظرة الضيقة متوقعا من البسطاء، إلا أنه فعل يستعصي على الفهم من نخبة سياسية مستنيرة، لا سيما إذا ارتبط بتقديم تلك المفاهيم التي تجاوزها العصر الحديث على مفاهيم الوطنية. إن كان صدام قد بذر بذور الفرقة وسط العراقيين، وعصف بمبادئ الوحدة الوطنية، وغرس أحقادا في نفوس بعض شرائح المجتمع، فإن ميليشيات العبادي ترتكب الفعل نفسه، وإن كان في اتجاه مضاد، وسيحتاج الشعب العراقي إلى سنوات لتناسي تلك المرارات، وستكون الأجيال المقبلة في حاجة إلى من يأخذ بيدها، ويهديها سبيل الرشاد، ويعيدها إلى طريق الوحدة الوطنية، ويقنعها أن دعاوى الطائفية البغيضة من فعل الشيطان، لأنها أسوأ أنواع العنصرية التي حذر منها ديننا الحنيف، وبزوال نظام الملالي الذي زرع الشر، وسقى الأحقاد، ورعا الفتن، حتما سيعود أرض الرافدين كما كان في الماضي، واحة تسقي الكل، ومنارة تهدي العالم إلى العلم والحضارة.