هكذا إذًا، وصل الأمر بإيران إلى إعلان عدائها الكلامي للمملكة العربية السعودية بشكل هو الأكثر فجاجة وصدقا منذ أن بدأ نظام الملالي بتصدير الثورة، ويبدو أن النظام الإيراني الذي حاول طويلا اتباع دبلوماسية المراوغة مع السعودية وغيرها خرج عن طوره أخيرا، وقال ما بقلبه، وحرض مواطنيه المغلوبين على أمرهم -كما هي العادة- على الهتاف والتصفيق والاحتجاج، فاستبدلت شوارع إيران عبارة "الموت لأمريكا " بلوحات وعبارات تحريضية ضد السعودية (وصلت إلى شوارع بغداد)، وتظاهر آلاف الإيرانيين بعد صلاة الجمعة الفائتة، لا ضد أمريكا بل ضد السعودية، "الشر المطلق"، لغيابهم عن مناسك الحج هذا العام.

الرئيس الإيراني حسن روحاني ناقم على التدابير الاحترازية والقواعد التي فرضتها السعودية لحماية ضيوف الرحمن على أرضها أثناء مناسك الحج كي لا يتكرر الحادث المروع الذي وقع العام الفائت، ولحفظ أمنها القومي أيضا (وهو حق مشروع )، وقد دعا  العالم الإسلامي إلى معاقبة السعودية عن جرائمها (لا نعلم ما هذه الجرائم)، مطالبا دول المنطقة والعالم الإسلامي بتنسيق إجراءاته لمعالجة المشاكل ومعاقبة الحكومة السعودية". والمرشد الأعلى للثورة (التي يريد تصديرها عبر الحج أيضا) علي خامنئي غاضب بشدة من طريقة السعودية في إدارة الحج، وقد ندد في رسالة نشرت على موقعه الإلكتروني بـ"السلوك القمعي للسعودية تجاه ضيوف الرحمن"! ولا أعلم ما هذا السلوك القمعي الذي يتحدث عنه المرشد إن كان ملايين الحجاج لا يتحدثون إلا عن استقبال كريم وخدمات تقدم على مدار الساعة، وتنظيم دقيق للحشود، وكل ذلك يعرض على الهواء في القنوات الفضائية. وأضاف المرشد أنهم لا ينبغي أن "يفلتوا من المسؤولية" عما تسببوا فيه في مختلف أرجاء العالم الإسلامي (ولا نعلم بما تسببوا فيه أيضا)، أما رئيس مجلس صيانة الدستور، أحمد جنتي، فقد اتهم السعودية بتسييس مناسك الحج ودعم الجماعات التكفيرية في العالم العربي، مع أن المملكة (وبخلاف إيران) أكثر من عانى من هذه التنظيمات الإرهابية وواجهها بحزم.

هذه العبارات وهذا السخط وهذا التصدير للثورة بأي وسيلة ليست جديدة، فقد اعتاد نظام إيران على اختراع عدو وشيطان أكبر للاستهلاك الإعلامي (كان واشنطن سابقا)، وتحويل السخط الشعبي عن مجراه الداخلي إلى الخارج، ويبدو أن هذا الخارج بات هو السعودية اليوم.

فما الذي فعلته السعودية لتستحق كل هذا اللوم؟ أو بالأحرى ما الذي لم تفعله إيران حتى اللحظة من جرائم اتهمت السعودية وحكامها بها، من سوء إدارتها لحجيجها الراغبين في زيارة بيت الله الحرام دون ضوابط أو قواعد كما تصرح طهران، ومن تسييسها لأتفه وأعظم الأمور بدءا من تسييسها لوجبات الماكدونالد الأميركية الصنع -سابقا- وصولا إلى تجييشها للمواطن الإيراني البسيط ضد السعودية والعرب بهذه الطريقة الطائفية والشوفينية؟ وما هي هذه الجرائم التي ارتكبتها السعودية في العالم العربي؟ ومن الذي يحرض ويدعم الإرهاب والتطرف كل يوم عبر تسليح ونشر جحافل الميليشيات والمرتزقة الإيرانية واللبنانية والعراقية واليمنية والأفغانية التي تقاتل وتقتل عربا مسلمين أيضا تحت لواء ثاراتك يا حسين؟!

لست هنا في صدد الدفاع عن السعودية وسياسة حكامها، إلا أن الرياء الإيراني -الذي بات مفضوحا اليوم- مستفز لدرجة كبيرة وفاقعة، ومن حق السعودية كأي دولة في العالم أن تضع الضوابط الملائمة لحماية أمنها وأمن الحجاج، بل هي معنية ومطالبة بذلك بشكل أكثر صرامة عند استضافتها لملايين الحجاج المسلمين القادمين من كل أنحاء العالم، وهو واجب أخلاقي وديني ووطني، وكان بإمكان طهران أن توافق على الشروط التي فرضتها الرياض لاستقبال الإيرانيين الراغبين في الحج بدل أن تفتعل هذه الأزمة العجيبة، أم أنها كانت تنتظر لحظة كهذه لتنفث ما كتمته في صدرها طويلا من استياء وحقد على سياسة السعودية المجابهة لمشروعها التوسعي في المنطقة، وأيضا لتمارس تصدير الثورة مجددا عبر استغلال الحج والمشاعر الدينية، للتغطية على أزماتها الداخلية والسخط الشعبي المتمدد في إيران على مبدأ اقتناص الفرص؟!

العبارات التي أطلقها المسؤولون الإيرانيون ضد الرياض والاتهامات الخطيرة غير المتوازنة التي حملتها تصريحاتهم الأخيرة والأزمة التي افتعلوها ينطبق عليها المثل السوري القائل (العرس بدوما والطبل بحرستا)، والخلاف الذي تنطلق منه طهران سمعت أصداء طبوله تقرع في بغداد واليمن ودمشق، وامتعاض إيران الشديد من تصدي السعودية الجدي لمخططاتها التخريبية والتوسعية المستمرة في اليمن والعراق وسورية، جعلها تخفق في اللعب هذه المرة، وتدق طبوله في أمكنة أخرى، لم تغادرها إيران أصلا.

كل هذا الكم الهائل من الحقد الذي تغذي به إيران مواطنيها، ومواليها في العالم العربي، ليس طارئا ولا حديث عهد، الحكاية مديدة وعتيقة، فقط كان ينبغي على السعودية أن تفعل ما فعلته، وتقرر حماية المقدسات والحجاج، وحماية هذه الشعيرة الدينية وحماية أمنها القومي أيضا، حتى نسمع كل هذه الجعجعة، وفي كل الوقائع والمرويات التاريخية والمسار الاعتيادي للأشياء، فإن الجعجعة تستبق الطحين، فيخرج عنها أو لا يخرج، إلا في المشروع الإيراني فإن الطحين سبق الجعجعة منذ عقود، وها هي الحلقة تكتمل اليوم.