هذه هي عرفات، وهذا يومها المشهود، يوم اجتماع الحجيج على صعيدها الطاهر، بلباسهم الأبيض، تترى جموعهم الكثيفة، لاهجة بالتلبية، ومختلجة بالخشية لله، والتوق إلى مرضاته...
ترفع أكفها في ضراعة وتذلل، راجية عفو الله ومغفرته، وباكية شقاءها وخطيئتها، ولاهثة إلى رحاب الرضوان الإلهي...
هذه عرفات، جموع مختلفة في ألوانها وألسنتها، توافدوا من أنحاء الجغرافيا الأرضية، جموع متفاوتة في معاشها، وعلمها، وأعمارها، ومراكزها الاجتماعية، وطوائفها الدينية، ومذاهبها الفكرية...
اجتمعوا كلهم لغرض واحد هو أداء فريضة الحج..
المكان واحد، والزمان واحد، والغرض واحد، والعقيدة واحدة؛ فلا جرم أن تتحد أدعيتهم وأذكارهم ومشاعرهم، أمام ربهم الواحد الأحد...
"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك..."
تكرار متضاعف: تكرار في ترداد التلبية على ألسنة الحجاج في عرفات، وتكرار في تضمن عبارتها إعادة لفعل التلبية لفظا ومعنى خمس مرات.
وهذه صياغة وفعل متجاوبان مع الجلال والعظمة واللانهائية: حيث يكمن في هذا التكرار تعظيم المخاطَب، وهو الله جل شأنه، والتأكيد على إجابته والخضوع له سبحانه.
وتكثير ذلك في تكرار الفعل نفسه، في الإعادة المتجددة التي تخرج بالعبارة عن القول الذي تقف غايته على إيصال معنى، وتطلقها بعيدا عن قيد النهاية ذاك.
وفي غضون ذلك، يوقِّع تكرار التلبية إيقاعات إنشادية، تحتوي الشعور النفسي الجائش والدافق والحثيث، لدى الحاج، وتستجيشه في النفوس...
يا إلهي، ما أعظمك، وما أحلمك، وما أرحمك...!
وما أحقر الإنسان وأصغره حين تحوطه شهواته، وتقصر به ضغائنه وأحقاده، وتسجنه مظالمه..!
ما أجلك يا الله، وما أحوج الإنسان في بيداء عدمه، ووحشة عزلته إلى الأنس بالإيمان بك، والاطمئنان بلطفك، واليقين بعدلك ورحمتك..!
هذه عرفات الله، وذاكم "جبل الرحمة" وهنا المزدلفة، ومنى، وجبل النور، والكعبة المشرفة، والحطيم، وزمزم، والصفا، والمروة...
هذه مكة القداسة والنور، مرتحل نبي الله إبراهيم، ومسكن زوجه هاجر وابنهما إسماعيل عليهم السلام. ومولد محمد عليه صلوات الله وسلامه ومنشأه، ومهبط آيات الله التي تنزلت على قلبه الكريم قرآنا يتلى، ونورا يسطع، وهدى يترقرق في النفوس.
وتحت هذه السماء صارع المسلمون الأولون، وقاوموا في سبيل التحرر بعقيدتهم، والتحرير لقومهم من اضطهاد العادة، ومواريث السيادة النابعة من العرق والقبيلة والثراء والوثنية...
وأنتم، أيها الحجاج: "ضيوف الرحمن" هذا الاسم الشريف الكريم الذي سماكم به أهل هذه البلاد، أهل مكة الذين شرفهم الله بخدمتكم، واختصهم جل جلاله بمسؤولية هذه الخدمة، وجهدها ومشقتها.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: "اعملوا فإنكم على عمل صالح" ثم قال: "لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه" وأشار إلى عاتقه.
والسقاية والرفادة والسدانة مصطلحات تلك الخدمة الجليلة التي يؤديها أهل مكة للحجاج منذ أقدم العصور، وحلَّ الآن محل مصطلح الرفادة اسم آخر هو "الطوافة" كما حلَّ محل السقاية مصطلح "الزمزمية".
سلام على أهل مكة، وسلام عليكم يا ضيوف الرحمن... يا من جئتم إلى لقاء الله، شوقا إلى المشاعر، وتوقا إلى الأرض المقدسة.
سلام عليكم في هذا اليوم الذي "يباهي الله بكم ملائكته"، وسلام على جموعكم في هذه الأرض الطاهرة، التي وقف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، مرة واحدة، حاجا مودعا، مكملا للدين وخاتما للرسالة، عام 10 هجري.
عودوا بذاكرتكم إلى الوراء، تخيلوا رسول الهدى والرحمة عند جبل الرحمة، يخطب خطبة الوداع، وتأملوا جيدا فيما قال:
"إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".
ما أجدرنا اليوم بإعادة هذه العبارة، وتكرارها والتأمل فيها. فما أرخص الدماء لدى جموع من المسلمين اليوم، وما أجرأهم عليها! وكيف السبيل إلى أن يعوا من جديد حرمة الدماء؟!
نعلم يقينا أن المواعظ لن تفعل شيئا؛ فهناك من يقتل متأولا مزيِّفا للدين، وهناك من يقتل من دون أن يبالي أنه ينتهك محارم الدين.
وعند هؤلاء وأولئك، لا نفع للموعظة إلا كما ينفع الحرث في الأرض السبخة.
ونعلم يقينا كذلك، أن أعظم ما ابتلي به دين الإسلام قديما وحديثا، اختطافه من قبل من يغلون فيه، ومن قبل من يتمصلحون به؛ من قبل الجهلاء ومن قبل الانتهازيين:
الأولون يساقون إلى حتفهم ظنا منهم أنهم يتعبَّدون بالفساد في الأرض، والآخرون يتاجرون بـ"التقوى" ويتوسلون إلى منافعهم بالدين.
ونعلم يقينا أن الخطورة البالغة ستتصاعد على الآمنين من مواقع الصراع باسم الدين في أصقاع العالم الإسلامي، ما لم تبُور هنالك تجارة السياسة بالدين، ويكسد تلبيس الدين بأغراض الدنيا، وتتكشَّف حيل العابثين الذين شقي بهم المسلمون كما أشقوا الناس أجمعين!
ها أنتم أيها الحجيج تتجاورون على صعيد واحد، فلماذا يشقى عالم المسلمين اليوم بالتنابذ والفرقة؟!
وكيف استحال ما يمليه الدين من روابط الأخوة والإيمان إلى دوافع للانقسام والعَزْل والتعصب والتعادي... يُزيَّف الدين لتبريرها، ويُفسَّر لتغذيتها؟!
لا موجب في الدين، بكل يقين لذلك، وإنما موجبه في عقول المسلمين، وباعثه من تصارعهم على دنياهم، وتزاحمهم على مراكز القوة والنفوذ.
هنيئا لكم يا جمع الحجيج المبارك، أن بُلِّغتم مناكم، وهنيئا لكل من قام على خدمتكم، وتيسير نسككم أن حباه الله الشرف...
بارك الله حجكم وعيدكم، وبارك للمسلمين جميعا عيد الأضحى المبارك،
وكل عام وأنتم بخير.