المشهد: رجال يتراوحون بين الأربعين والخمسين عاما، يكونون صفين متقابلين، ممزوجين بعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من شباب في مقتبل العمر.... يستعد الجميع لانطلاقة صوتية واحدة ترفع لحنا شجيا من ألحان لون "الخطوة"، الذي يعتبر من أشهر الفنون الشعبية في منطقة عسير، وعادة تصاحبه إيقاعات "الطبلة" و"الزير". لكن المفاجأة هنا أن العود و"الأورق" ـ الذي لا يعرف أغلب الحاضرين حتى مجرد نطق اسمه بشكل صحيح ـ نابا هذه المرة في توزيع الإيقاعات وسط صخب يصم الآذان. وبالتالي تعثرت الخطى واختلفت عن موعدها المعتاد في عناق الأرض، بعد أن كان هذا الموعد التزاما حتميا في عهد الزير و"الطبلة/ الزلفة"!
لحظتها تفحصت الوجوه التي جعدها الزمن فأصبحت كجبال نحتتها السيول، ورأيت علامات التعجب والدهشة الممزوجة بالاشمئزاز والتذمر، وكأن العيون المتباينة تطرح ذات السؤال: من أخلف موعد عناق الأرض، وشتت الأرجل والألحان؟
ولكي تكتمل علامات "المأساة" صدح بين الجموع "مزعل فرحان جديد"، أصر على تحويل "الخطوة" إلى لحن "هندي المولد"!
وأنا في استغراق ذهني يحاول تحليل إشارات الوجوه وتقاسيمها، غزت ذهني جملة اعتقدت وقتها وإلى الآن، أنها أنسب( تفسير/ تبرير) للمشهد وهي الجملة الشهيرة التي كان يؤكد عليها رئيس تحرير "الوطن" السابق جمال خاشقجي، في معظم نقاشاته وجدالاته مع المخالفين له في الرأي حول بعض القضايا الاجتماعية والثقافية. وهي "أنه لا يمكن لأحد أن يقف في وجه حركة التغيير"، وأضيف عليها والتطور الاجتماعي والثقافي، فهذا التغيير من سنن الحياة التي مرت على جميع الأمم. فهل وصلنا إلى مرحلة التغيير الجذري في أساليب أداء الفن الشعبي؟.
أعتقد ـ وبمرارة شخصية ـ أن الإجابة هي "نعم". فمن يشاهد تحول الأداء الطربي للفنون التقليدية إلى فنون راقصة فقط، يتمايل على الأنغام والتقسيمات اللحنية المركبة عليها عنوة معظم الشباب، يدرك ذلك جيدا؟ فلم يعد للكلمة الشاعرة مكان حقيقي في معظم احتفالاتنا الشعبية، ولم تعد الصفوف المؤدية تحرص على سماع هذه الكلمة، فما بالك بحفظها وتردديها مع الشاعر، كما هو معروف في تلك الألوان الأصيلة؟
ومع أنني شخصيا مع الحفاظ على الشكل التقليدي الذي يمثل تميزا وعمقا ثقافيا خاصا، إلا أن ما يحدث حاليا من تسابق في استقطاب الآلات الموسيقية وتركيبها على الفنون الشعبية التي لم تتعايش معها منذ مئات السنين، يوحي بأن معركة الحداثة والأصالة، وصلت إلى الفنون الشعبية التي كان يُظن أنها آخر قلاع الهوية القروية، التي لن تسقط أمام أي حركة تغيير.
فمن سينجح في النهاية، دعاة "موسقة" التراث و"تطويره" أم حماة الشكل القديم ومناصريهم؟.