هنالك شبه اتفاق بين الباحثين أن السلفية ليست كبقية الطوائف الإسلامية، كونها تتصف بصفات لا توجد كلها مجتمعة في بقية الطوائف، أبرز تلك الصفات أنها ليست تيارا شعائريا تعبديا فقط، إنما هي أيضا تيار حركي اجتماعي متداخل في شؤون المجتمع والناس، ومن سماتها أيضا، وهي سمات ذات حدين، أنها تحرض الأتباع من باب الورع على تقديم النقل على العقل، وأن يكون تعلقهم بالروايات على حساب الآراء والاجتهادات، وتدفعهم للبحث عن سلف لكل جديد، وما لا سلف له فهو موضع ريبة وشك، هذه السمات في السلفية جعلتها اليوم أكثر الطوائف خلوّاً من البدع وأبعدها عن الابتداع والابتكار، ومن سلبياتها سوء الظن بالإنتاج العقلي، والجمود والبعد عن الاجتهاد جراء البحث المبالغ فيه عن سلف لكل جديد، إلا أن ما جعلها تعيش في قلق داخلي وتكون مصدر قلق للبقية هو هذا الالتصاق الشديد بالأثر الذي قولب الشخصية السلفية داخل إطار متصلب متزمت لا يمرر قولا أو فعلا إلا بعد تمحيص مغالٍ في الكثير من الأحيان، وكثيراً ما ينتهي الأمر برفض أمور هي ضمن المباح.
لكن للشدة والتصلب على الرأي الذي تتصف به السلفية، والذي جعل بقية الطوائف تنفر منها جانبه الإيجابي الذي يتم إغفاله عمدا أو عن جهل، هذا الجانب يتمثل في أنها أكثر الطوائف نقدا للذات، ولم يسلم شيوخ السلفية وعلماؤها الكبار من النقد السلفي، بمن فيهم "ابن تيمية" والإمام "أحمد بن حنبل"، تم إخضاعهم للنقد من قبل تلاميذهم، هذا النقد الذاتي الصارم جعل السلفية سلفية نقدية بجانب كونها مدرسية، إنه نهج سلفي يتمدد في جميع الاتجاهات والأبعاد، فتنتقد أفكارها ومبادئها وآراء علمائها بنفس الحدة والصلابة التي تنتقد فيها الطوائف الأخرى، وربما أشد، ولا يزال هذا النهج ظاهرا في السلفية إلى اليوم، فسيل النقد لا يتوقف ولا يحابي كل جماعة تتفرع عن السلفية أو تتستر بلباسها كـ"القاعدة" التي لم تقم بفعل إلا وجدت السلفيين يبادرون قبل خصومهم بتوجيه أشد النقد، ويكفي جولة على الصحف والإعلام السعودي معقل السلفية للوقوف على كم النقد الذي قد يصل للجلد، هذا النقد قد يراه البعض عيبا، إلا أنه وبرغم كل عيوب السلفية جعلها تيارا إصلاحيا بامتياز، فلا مرجعية ثابتة تمكن الآخرين من ضبطها، لا ضغوطات مادية أو طقوسية من قبل الخواص تجاه العوام، بل لا خواص من الأساس ولا قداسة إلا للآية والحديث، ولا تعقيدات شعائرية وطقوس مستهجنة، والأهم أن لا وسطاء يتزاحمون بين العبد وربه.
وبمناسبة الحديث عن النقد الذاتي، أي طائفة بين الطوائف الإسلامية يتجرأ أتباعها على توجيه النقد تجاه أفكار ومبادئ طائفتهم؟ أي طائفة يجرؤ أتباعها على تصحيح آراء وأفعال المرجعيات والملالي والأئمة النورانيين؟ والحديث هنا ليس عن النقد الخجول الذي يصدر همسا، إنما عن النقد الصريح الجارح إن لزم الأمر، لا شك هنالك نقد ذاتي في كل طائفة إلا أنه ليس ضمن نهج الطائفة، إنما هو اجتهادات فردية، وهو في الغالب ليس مؤثرا بتلك الدرجة ولا يسهم في تصحيح المسار، في المحصلة أصبح صوت التخلف في كل طائفة أعلى وأكثر سطوة وهيمنة، وها نحن نشاهد كيف يرقص الأتباع على ذكر الله والأئمة يصفقون، كيف يلصق الأئمة بالأولياء صفات العزيز الجبار والأتباع يصفقون، وأموال تدفع بلا رقيب، وغلو في محبة المرجعيات، وتقديس مستقبح للأولياء وأهل الكرامات، وتبرك ذميم بالأموات، وأشياء وتصرفات تُزكِم الأنوف وتجعل المتابع يتساءل: أليس في القوم رجل رشيد ينتقد؟ وماذا يفعل الرجل الرشيد في طائفة تمقت النقد؟.
لا شك أن للسلفية أخطاء، وللوهابية أخطاء، لكن إن كان في طوائف الإسلام طائفة بلا أخطاء فلترمي بحجر، ويبدو أن ضمائر اليوم أبدا ليست هي ضمائر حواريي المسيح، فاليوم الكل يسابق ليحمل الحجر ليلقيه ظنا أنهم هكذا يكفرون عن خطاياهم، كأنهم يستغفرون الله بجلد مخالفيهم وتبرئة الذات، ولا بأس بنقد الآخر إن سبقه نقد للذات، لكن! إن ما حدث في "غروزني" من اجتماع لأئمة وعلماء ومرجعيات ذكرني بقصة شخص تمت محاكمته في أميركا بتهمة حمل الفكر النازي، وبينما التهم تنهال عليه أخذ يبتسم، وحين سألوه قال: أبتسم لأنكم ترمونني بعيوبكم وتلصقون بي مساوئكم وعليها تحاكمون! وهذا تقريبا ما حدث في مؤتمر الشيشان، الكل يرمي على السلفية أخطاءه، مؤتمر أقيم لتدارك تبعات التصنيف فانتهى بتصنيف دافعه الانتقام، أقيم لمعالجة آثار الإقصاء، فكان العلاج بإقصاء تشفٍّ وغيظ.
إن الجنين الذي يحاول "بوتين" انتزاعه من رحم الصوفية إن لم يخرج ميتا فسيخرج هزيلا مشوها، ليس لأن الصوفية لا تمتلك المطلوب كي تتسيد المشهد، إنما لأن الواقع اليوم لا مجال فيه للتسيد من الأساس، لقد تغيرت المعادلة تماما، بالأمس نجحت السلفية عبر الصحوة أن تصبغ الجسد الإسلامي بلون واحد، أما وقد أدرك الجميع مدى كارثية فرض اللون الواحد، فما عاد المجال مجال فرض وتسيد، لا باللين ولا بالإكراه، الزمن تغير وتغيرت معه قواعد اللعبة، والصحوة الصوفية التي يتم التحضير لها لمحو آثار الصحوة السلفية لن يكتب لها النجاح، إلا إن رأى المسلمون في الدروشة والدوران سبيلا للخلاص.