ذهب المثقفون السعوديون ذات عام إلى مدينة "جدة"، ودونوا تشوفاتهم المستقبلية في بضع مئات من الأوراق سموها "إستراتيجية الثقافة"، وكم أفرطوا في التنظير والمقاربات والمضامين التجريدية، والانفتاح على الغد والاشتغال على خطابهم الثقافي والتنويري، وتمثلاتهم وتوجعاتهم وتبرماتهم وتجلياتهم وتراسلهم مع المعرفة في أقصى سياقاتها الحضارية، ولكن الزمن لم يسعفهم فقلب لهم "ظهر المجن"، فلم يستطيعوا مناطحة العصر وارتداده القاسي ومناكفة التحولات المفصلية، التي جعلت الثقافة تتذيل قائمة الاهتمامات الحياتية واضمحلال المشروعات الثقافية أمام زحف المنظومات والاشتغالات المهيمنة وتداعياتها المعاصرة، واجتراح بدائل وإستراتيجيات مكتظة بالسلبية "ومصنعات الثقافة الجاهزة" كما يسميها الناقد "محمد العباس"، فإستراتيجيتهم كانت حلمهم في تخليق تطلعاتهم وتمرير مفاهيمهم المتعاظمة والتنويرية، وتكريس توظيفاتهم واندفاعاتهم المضادة للسائد والمعتاد، واليوم يعود الحديث عن "الهيئة العامة للثقافة" لتؤسس لكيان ومعمار معرفي، ومعيارية مستحدثة ومعطيات عصرية تعيد للثقافة والمثقفين حضورهم التكويني وممارسة دورهم التبصيري وانبثاقاتهم الإبداعية، وكم أقنعني الصديق الدكتور "عبدالله المعطاني" عضو مجلس الشورى، وهو يضع سبعة مقترحات أمام اللجنة المعنية بدراسة وإعداد التصور لعمل الهيئة ضمن استطلاع لصحيفة المدينة الغراء ومنها: تخليص ثقافة اليوم من البيروقراطية القاتلة والخلط بين المثقف والموظف، الإيمان بأن الثقافة ليست للنخبة وإنما هي مشروع قومي وطني تطلعي تنخرط فيه كل شرائح المجتمع، ترتيب المؤسسات الثقافية وتفعيل دورها فتخرج من كونها وسيلة لتوصيل الثقافة إلى حقل مستقر معرفي لإنجاز الفعل الثقافي، معالجة حية لعزوف الجيل عن الثقافة مما أدى إلى هشاشة البيئة الأساسية لمستوى المثقف في بلادنا، الحد من بيروقراطية "بعض" المثقفين في بلادنا وأنانيتهم وتعاليهم عن الانخراط في التيار الوطني الذي يصنع الثقافة الواعدة لمجتمع سليم، كسر حاجز العنصرية الثقافية أو التعصب الأعمى الذي عانت منه الساحة ردحا من الزمن، أن لا ننظر إلى الثقافة على أنها ساحة للترويح والترفيه وتزيين واجهات المؤسسات والوزارات والمهرجانات الموسمية، بل نعدها بناء لقيمة الوطن وقدرته الإنسانية التي يمثلها المجتمع بكل مستوياته وشرائحه.