منذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وظهور مفهوم المدون، أو المواطن الصحفي، ساد اعتقاد بأن مهنة الصحافة بشكلها التقليدي المألوف تلفظ أنفاسها الأخيرة، خصوصاً أن ذلك تزامن مع تراجع الورق كوسيلة نشر، وإلغاء الكثير من الصحف لطبعاتها الورقية، إلا أن الزلازل المدوية التي تسببت فيها تحقيقات ومواضيع صحفية نشرت ورقيا في بعض الصحف الغربية، وتناولت أحداثا غير اعتيادية مثل فضائح فساد أو تلاعب مالي أو سياسي أو استخباراتي وكشف لحقائق معينة، تحمل مئات المعاني والدلالات والرسائل، بالإضافة إلى الارتدادات والتداعيات، ولعل أول هذه المعاني هو تجديد الحياة في مهنة كان العالم يعتقد أنها في طور الوفاة، وهي مهنة الصحافة، وقد أثبتت عدة أحداث مؤخرا أن الصحافة لا يمكن أن تموت، وأنه يستطيع أي مدون أن يكتب على تويتر أو فيسبوك عبارة أو معلومة يتابعها ملايين الناس، لكن الأحداث الحقيقية والمؤثرة يقوم بها المحترفون، والصحافة الاحترافية يمكنها أن تحرك مستنقع العالم، وتثير فيه الزوابع والدوامات.
قبل أيام أقيلت رئيسة البرازبل ديلما روسيف على خلفية تورطها في تلاعب مالي، وبالطبع لم يعد ممكنا في ظل هذا التوسع المعلوماتي إخفاء معلومات من هذا النوع، وقد تم تسريب الخبر بسرعة فائقة قبل صدور الحكم على الرئيسة السابقة، وقد نشرت كبريات الصحف الغربية مرارا ومازالت تنشر تفاصيل الفساد العميق لمسؤولي الفيفا (وهو الوحيد الذي لا يحتاج إلى نشر لأنه معروف لدى الجميع)، مما تسبب في طرد العديد من المتورطين والمسؤولين في الاتحاد الدولي لكرة القدم، كما يعتبر تسريب وثائق الويكيلكس ونشرها في الصحافة الورقية والصدمة التي أحدثها على مدى سنوات المثال الأبرز على الأثر الحقيقي الذي يمكن أن تحدثه الصحافة لاسيما إذا كانت احترافية، وفي فرنسا تراجعت شعبية هولاند بعد جملة يصف فيها الفقراء بأنهم بلا أسنان وفق رواية صديقته السابقة فاليري تريرفيلر في كتاب ورقي حظي باهتمام وسائل الإعلام.
عشرات بل مئات الأمثلة والكشوفات والوثائق المسربة وكتب التحقيقات الصحفية أعادت الألق إلى مهنة الصحافة، وتسببت وستتسبب في موت الكثير من الحكومات والشركات الفاسدة، وأدت إلى فتح عدة تحقيقات في عمليات تبييض الأموال والفساد والتلاعب المالي، في فرنسا وإسبانيا وأستراليا، وبريطانيا وغيرها، كما اضطر بعض المسؤولين إلى نشر سجلات مقابلة في الصحف الورقية نفسها للرد على مثل هذه التهم.
وأيضا وعلى هذه الصفحات نفسها تتم صناعة الرأي العام الغربي، ويحدد الناخب الفرنسي أو الأميركي أو الألماني موقفه من قضية اللاجئين، ومن الرئيس المقبل ومن سياسات حكومته الداخلية والخارجية ومواقفه مما يحدث على أرضه وخارجها، وقد دفعت عدة تحقيقات صحفية مشغولة بحرفية المواطنين الألمان إلى مؤازرة رئيسة الوزراء إنجيلا ميركل في الخطوات الجريئة والشهيرة التي اتخذتها لدعم اللاجئين السوريين، كما تسبب تحقيق صحفي مهين بطرد صحفية مجرية من المحطة التي تعمل فيها بعد أن أدانت الصحف الغربية المكتوبة، وبحرفية عالية، الوحشية الفائقة التي تعاملت بها هذه الصحفية مع عائلة سورية على حدود المجر، وقبل أيام علق مجلس الدولة الفرنسي أعلى هيئة قضائية في البلاد، قرار حظر لباس البحر الإسلامي المعروف بـ"البوركيني"، أصدرته بلدية في مدينة ساحلية، وأثار ردود فعل غاضبة في صفوف الجالية المسلمة، وتباينا في الآراء بين الفرنسيين، وجدلا عارما في الصحف ووسائل الإعلام الفرنسية والعالمية.
إذًا، إحداث الأثر ما زال ممكنا، شريطة أن يتم التعاطي بحرفية ومهنية عالية مع الخبر أو التحقيق أو غيره من فنون العمل الصحفي، وشريطة وجود قارئ طبعا، وهو ما باتت توفره إمكانية قراءة الصحف الورقية على الإنترنت (لم تعد ورقية بل إلكترونية)، والأثر نفسه يستحق العناء، ويتطلب منا جميعا المحاولة ومواصلة الكتابة مرارا وتكرارا حتى إحداث هذا الأثر، الكتابة على الورق والجدران الافتراضية والصحف الورقية والإلكترونية، على الماء والهواء والتراب والحجر، والحجر هنا هو جدار الرجل البخاخ في المدن السورية الثائرة، سقطت الجدران جميعا، إلا أنه ما زال يخط كل يوم كلمة (الحرية).