القرية الكونية تزخر بالمعجزات التي حققتها دول العالم وصعدت بها إلى المراكز المتقدمة في العالم الأول، فاليابان التي خسرت الحرب العالمية الثانية وأشرف نصف سكانها على الموت جوعاً ومرضاً، كانت وما زالت تفتقر إلى الثروات الطبيعية من النفط والغاز والفحم. ومع ذلك حققت اليابان خلال نصف قرن العديد من الإنجازات والكثير من المعجزات، لتصبح اليوم ثالث أكبر قوة اقتصادية في العالم، وتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي في العام الماضي 4 تريليونات دولار، ليعادل 3 أضعاف الناتج المحلي لكافة الدول الإسلامية، و11 ضعف الناتج المحلي الإجمالي لكافة الدول العربية.
عندما نتحدث عن اليابان، فنحن نتحدث عن 4000 جزيرة تشكل بمجموعها أرخبيلاً طوله 3000 كيلومتر، يمتد في عرض البحر من شمال إلى جنوب شرق القارة الآسيوية، وتبلغ مساحتها الكلية 380 ألف كيلومتر مربع، ويصل عدد سكانها إلى 130 مليون نسمة. وبعد خسارتها الفادحة في الحرب العالمية الثانية نتيجة ضرب هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية، التي راح ضحيتها 140 ألف شخص، أثارت الغيرة أبناء اليابان على بلادهم وألهبت الحماس في صدورهم، فصمموا على البحث عن سبل التقدم والرقي، مدركين بأن لا سيادة لهم إلا بالعلم والمعرفة والابتكار، فأصبحت اليابان دولة رائدة في الصناعات والاختراعات التقنية والاقتصادية والمعرفية في العالم.
عندما أجرى خبراء البنك الدولي أبحاثهم حول المعجزة اليابانية، اكتشفوا أن أسباب نجاح اليابان في فترة زمنية وجيزة كان نتيجة تطبيقها أهداف رؤيتها التي بدأتها في إعادة هيكلة التعليم، حيث ألغت أساليب الحفظ والحشو والتلقين في مدارسها وجامعاتها واستبدلتها بمبادئ الفكر والمعرفة والابتكار والبحث والتطوير. أما الهدف الثاني فكان يصب في التركيز على النظام والانضباط، حيث أصدرت اليابان قراراتها الصارمة لتلقين كل من يستهين بالنظام ويتهاون في أداء العمل درساً قاسياً لن ينساه ليصبح عبرة لمن يعتبر. وكان الهدف الثالث من نصيب الصناعة والتجارة والاستثمار، حيث أنشأت اليابان وزارة سيادية مختصة في هذه المجالات أطلقت عليها اختصاراً اسم وزارة "ميتي".
بين ليلة وضحاها أصبحت جميع الوزارات اليابانية الأخرى تعمل لصالح وزارة "ميتي"، فتفانت وزارة المالية في جمع الأموال لدعم وزارة "ميتي"، وقامت وزارة التعليم والبحث العلمي بتوجيه مخرجاتها للعمل في منشآت "ميتي"، ووجهت وزارات الدفاع والداخلية والخارجية جهودها لدعم مشاريع "ميتي" وتسهيل أمورها والدفاع عن مصالحها، وأخذت وزارات الاقتصاد والإعلام على عاتقها تطوير برامج "ميتي" التنموية والترويج لمنتجاتها في الأسواق العالمية.
برؤيتها الطموحة 2030 تستطيع المملكة اليوم بعد مشاركة اليابان أن تحقق المعجزات لتأسيس مركزها المرموق بين دول العالم في توليد الطاقة وإنتاج المياه وتشغيل المصانع. فالمملكة تعتبر اليوم أكبر مُصدّر للنفط لليابان، وثالث أهم شريك للاستثمارات اليابانية في المملكة في قطاع الصناعات التحويلية والبتروكيماويات، لتفوق قيمة التبادل التجاري بين المملكة واليابان أكثر من 33 مليار دولار في عام 2015. كما يوجد حالياً بالمملكة 87 مشروعاً تشارك فيها الشركات اليابانية، بإجمالي تمويل تجاوز 55 مليار ريال، يتركز معظمها في القطاع الصناعي.
ومن المتوقع أن ترتفع حجم هذه الاستثمارات بمعدلات أعلى خلال العقد القادم، حيث تستطيع الشركات اليابانية، من خلال تطبيق رؤية المملكة 3030، أن تضخ المزيد من استثماراتها في القطاعات السعودية الرئيسية، كالطاقة والبتروكيماويات والاتصالات وتقنية المعلومات والرعاية الصحية والخدمات المالية، لتحقيق المملكة أهدافها التنموية، وتشجع الشركات السعودية على رفع تنافسيتها دولياً.
وبما أن المملكة تهدف في رؤيتها 2030 إلى زيادة نسبة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني من 40% إلى 65%، وزيادة نسبة مساهمة المنشآت الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الإجمالي من 20% إلى 35%، فإن اليابان تعتبر الشريك الأمثل على صعيد العالم في هذا المجال، حيث حققت هذه المنشآت نجاحات باهرة في اليابان تحت قيادة وزارة "ميتي"، لترتفع نسبة مساهمتها في القطاع الخاص إلى 97%، وزادت قدرة استيعابها للعمالة الوطنية بنسبة 80%، وفاقت نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي 65%، وارتفعت قيمة صادراتها إلى 72% من مجموع الصادرات اليابانية.
ولكون هذه المنشآت تلعب دوراً بالغ الأهمية في التنمية الاقتصادية، فقد أطلقت اليابان معاهد إدارة الأعمال والتقنية لتسخير مواردها البشرية في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لتقوم هذه المعاهد على تدريب 40 ألفاً من العاملين سنوياً وعلى فترات مختلفة في مجالات التطوير الإداري والتقني، ودعمتها بأكثر من 1200 خبير في الإدارة والإنتاج والتسويق والمحاسبة المالية وتقنية المعلومات. كما لجأت اليابان إلى تمويل هذه المشاريع بقروض ميسرة لإعادة هيكليتها وتطوير إداراتها ورفع قدراتها التنافسية.
ونظراً لأن المملكة تتمتع بالمزايا التنافسية الفريدة بين دول العالم، التي تضعها في مقدمة الدول القادرة على الاستفادة من منشآتها الصغيرة والمتوسطة، والمتمثلة في استثنائها من مبدأ المعاملة الوطنية في مشترياتها الحكومية وتفضيلها على المنتجات الأجنبية، إضافة إلى قدرة المملكة على تمويل هذه المنشآت بقروض ميسرة، وتشجيع صادراتها من خلال اتفاقية تمويل التجارة المبرمة بين الدول الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية، فإن تنظيم وتشجيع منشآتنا الصغيرة والمتوسطة ومنحها الدور الأكبر في مشترياتنا الحكومية ومشاريعنا التنموية سيحقق الغرض من إنشائها الهادف لإثراء القيمة المضافة المحلية وزيادة قيمة صادراتنا غير النفطية، فهي المعجزة الحقيقية التي أثرت اقتصاديات اليابان وحققت أهدافها.
لهذا جاءت الشراكة الإستراتيجية بين الرؤية السعودية والمعجزة اليابانية.