أزعم أننا بحاجة إلى فهم أعمق لعلم الاقتصاد، كعلم يسعى إلى تفسير معظم ظواهر حياة الأفراد والجماعات، سواء في مناحيها المتعلقة بالكسب والمال، أو جوانبها الاجتماعية والسياسية، بل وحتى الدينية.
وأزعم أيضا أن ما يقدم لنا ككتابات أو تعليقات وآراء اقتصادية، لا يحمل سوى لمحات طفيفة من هذا العلم العميق، ولا ينفذ -في الغالب الأعم- إلى لبه وحقيقته.
فبينما يعتقد كثيرون أن الاقتصاد يقتصر على مجال المال وسوق الأسهم وأمور مشابهة كأرقام البطالة والتضخم وسعر صرف العملة، نجد أن علماء الاقتصاد ومؤلفيه حول العالم استطالت أيديهم، فدخلوا في مواضيع كان يراها البعض حكرا على علوم السياسة أو علوم السوسيولوجيا، فكتبوا في خيارات الفرد المتعلقة بحياته الاجتماعية والفردية، بل وحتى في تنظيم الأسرة واختيار زوج المستقبل، إضافة طبعا إلى المواضيع التقليدية المذكورة أعلاه. ولا أدَلّ على انتشار هذا المذهب الاقتصادي الشامل اليوم من الشعبية الواسعة لكتب مثل "فريكونوميكس" لمؤلفه الاقتصادي في جامعة شيكاغو ستيفين لوفيت، ومِثلُهُ كثير من الكتب التي تُطبّق آليات النظريات الاقتصادية على الظواهر والسلوكيات اليومية للأفراد، مُحاوِلةً شرح الدوافع العقلانية خلفها.
مواضيع هذه الكتب ربما تبدو غريبة ومثيرة في البداية، كتفسير حالات الغش في المباريات الرياضية والمدارس، أو إظهار الجانب العقلاني عند من يلتحقون بالعصابات المنظمة في شوارع أميركا وخياراتهم الاجتماعية، أو تفنيد بعض الاعتقادات الخاطئة حول تربية الأطفال أو تعليمهم.. إلخ
الاقتصاد في الأصل علم من علوم الاجتماع، يسعى إلى دراسة سلوك البشر أمام خيارات الحياة وقيودها، وتفسيرها تفسيرا منطقيا عقلانيا.
هذا الفهم الشامل ليس جديدا، فآدم سميث، الذي يعدّه الغرب مؤسِس علم الاقتصاد الحديث، لم يكن يُفرّق في كتاباته الاقتصادية بين الجوانب التجارية البحتة والجوانب الاجتماعية والسياسية. وقَبله وضع ابن خلدون أساسا نظريا فسّر خلاله صعود الأمم وثراء الشعوب في إطار اقتصادي وسلوكي مترابط، ونَفذَ إلى أعماق القرار البشري بكل دوافعه وأهدافه مجردا من المثاليات.
وكان لعلماء المسلمين، سواء من سبق ابن خلدون كالغزالي أو أتى بعده كابن القيم، إسهامات في مواضيع اقتصادية ربطت رغبة الإنسان في تعظيم منفعته سواء دنيوية أو أخروية، ضمن منظور متكامل يتناول حياته الخاصة والعامة.
هذه الإسهامات الاقتصادية تجاهلها الغرب عندما كتب في تاريخ الفكر الاقتصادي، وغفل عنها المسلمون مع الأسف.
الشاهد من هذا، هو أن الاقتصاد عبارة عن منهج تحليلي متكامل، يقوم على افتراض أن الإنسان يحرص على تعظيم منفعته، بكل تعريفاتها سواء منفعة مادية أو اجتماعية أو دينية، كل هذا ضمن ذوق الفرد ورغباته التي تختلف بحسب حاله وظروفه والمعلومات المتوافرة لديه، بينما تَحُولُ بينه وبين رغباته المطلقة قيود مادية أو معنوية، كعدم توافر ما يطلبه أو ارتفاع ثمنه، وعلى أساس اختلاف هذه القيود والظروف يختلف سلوكه وخياره، دون أن يخرج عن حيز العقلانية والمنطق.
فتحديد كمية إنتاج مصنع ذي تكاليف معينة هي مسألة اقتصادية، كذلك قرار بناء طريق عام، أو فرض رسوم على خدمة معينة، أو تحديد طبيعة المنافسة، أو الاحتكار في سوق سلعة ما، كل هذا مما اتُفقَ على خضوعه لمجال التحليل الاقتصادي.
لكن، هل تعلم مثلا أن قرار اختيار زوجة المستقبل والحرص على كونها من ديانتك نفسها يمكن أن ُيفهم ضمن الإطار التحليلي لنظريات الاقتصاد بهدف رفع كفاءة "الإنتاج المنزلي"؟، وأن اختيار الشخص تخصصه الجامعي أو الوظيفة التي يرغب التقديم عليها، يمكن أيضا أن يخضع للأدوات التحليلية نفسها فيما يعرف بنظرية الألعاب الإستراتيجية؟ بل إن مشكلة التوفيق بين متبرعي الأعضاء البشرية "كالكلى مثلا" وبين المستحقين بحسب حالتهم لها حلٌ رياضيٌ كُتب بلغة الاقتصاد، وألّفَ فيه أحد كبار الاقتصاديين الحائزين على جائزة نوبل في هذا المجال. وهذا غيض من فيض.
ما أريد أن أختم به، هو أن علم الاقتصاد يسعى أولا إلى تفسير الظواهر الاجتماعية المختلفة، خلال عرضها على إطار منطقي ذي مرتكزات ثابتة، تمثل الرياضيات الحديثة لغتَه اليوم، وأن أي طرح لمواضيع تبدو في ظاهرها اقتصادية دون النفاذ إلى الأسباب السلوكية أو التنظيمية أو الاجتماعية الكامنة وراءها، يظل طرحا ناقصا في ضوء هذا المفهوم الشامل.