كيف يمكن لطرفين يتبعان مرجعيتين إيمانيتين مختلفتين أن يثبت أحدهما للآخر أنه على صواب؟ في وقت كلا الطرفين إما أنهما لا يعترفان بمرجعية الآخر أو أن لهما تفسيرين مختلفين يعتمد كل واحد منهما على آليات تفسير هي ذاتها محل اختلاف فيما بينهما.
الصراعات التي يشهدها العالم اليوم يغلب على معظمها الطابع الإيماني، فهناك طيف يرى أنه صاحب الحق في حكم العالم، وهناك طرف آخر يرى أن الحق الإلهي منحه وعدا بات وشيكا في حكم كل البشر، والناس إما حائرة أو منقادة أو ضحية لهذا السجال الإيماني الماورائي بين من هو صاحب الحق ومن يملك القوة على الأرض لفرض الحق وفق منهجه.
وسط هذا العبث أصبح العقل نقيصة واتهاما ورجسا، في حين كان العقل الأول هو البادئ في إثبات ما كانت الروح حينها تكابد في إثباته من إيمانيات كان لها الفضل منذ فجر الحضارة في تحول الإنسان لكينونته الفاعلة والمتفاعلة مع الحجر والبشر.
العالم اليوم يدار بمنهج تسيير البشر بالعاطفة، فبالرهان على ذلك يمكن السيطرة على أفئدة الناس بالوعيد والترغيب. والاستغلال والتلاعب بالعاطفة كوسيلة هيمنة يعد دليلا على الخوف من منهج العقل ومخرجاته من دحض وتشكيك، فالعاطفة تنتج أتباعا مسيرين بينما ينتج العقل منافسين مستقلين.
كيف تتفاءل في مخرجات يحدد فيها الصالح والطالح من كان جل علمه نظريا ومن يرى في الفلسفة -وهي منبت المبادئ والعلوم- أنها زندقة، وأن الفنون التي تحاكي جمالنا الداخلي مفسدة، وأن الحريات التي خلقت معنا فسوق وانحلال!
يقول إبراهيم البليهي: "حب المعرفة غريزة تولد مع الإنسان، لكنها في الغالب تنطفئ في وقت مبكر من حياة الأفراد بعد أن يكف الطفل عن التساؤل". وهي تماما أس مشكلة "شيطنة الاختلاف" في مجتمعاتنا التي اعتادت على مقولة "إذا تحدث الكبار فالصغار يصمتون". كيف لطفل أن يتعامل وتتوسع مداركه دون أن تتاح له فرص الاستفهام والمشاغبة الفكرية، والجواب هنا مرده إلى تطبيق منهج التبعية دون حياد، وهو المنهج الذي يطبق فيه الفرد الوصاية على كل من هم دونه!
إن كنا نريد أن نهزم هذه العاطفة المختطفة فعلينا أن نولد من جديد بأن نقرأ ونقرأ ونقرأ، ثم نفكر ونفكر ونفكر، لنعي بعد ذلك أن لنا الحق في أن نتشجع ونتجرأ ونتساءل لنصل إلى لحظة المفصلية التي فيها نتفوه ونعلن ونتحرر.