أستأذن بالخروج قليلاً عن اهتمامات صفحات الرأي وما تقتضيه تقاليد الصحف المحترمة من صرامة مهنية وضوابط.
تلزمني الحيلة بعض الشيء لتمرير هذا التجاوز الذي تشفع عنه سوانح العيد سيما وأننا من جيل عربي بدأت تجربته مع الحياة في ظل سلطة أبوية من مسلماتها حظر الكلام في الأمور العامة واعتبار السماح به مكرمة نحوزها أثناء الأعياد بوصفها مناسبات لا تحتمل النقاشات الجادة والآراء المنضبطة قدر ارتباطها بالمرح وما تيسر من لهو حلال.
سوف أفترض انطلاء الحيلة على هيئة التحرير وأخوض في موضوع دخيل على صفحة الرأي.
هأنذا ولأول مرة أعنى بشأن رياضي وكذلك (يؤجر المرء ولو رغم أنفه).
ثمة أوضاع طارئة تستحق الرواية.. إذ لا أكاد أجد لدى اليمنيين حديثاً يتصدر اهتماماتهم – شجناً وقلقاً واعتزازاً – غير التئام خليجي عشرين الذي تتأهب اليمن لاستضافته وسط أجواء فرح لا يخلو من تعقيد.
المناسبة مهمة لذاتها كما هي مهمة على صعيد تعزيز علاقات اليمن بالأشقاء في دول الخليج والمملكة على وجه أخص.. وغير خاف دلالاتها الأخرى بالنسبة لموقع إقامتها بمحافظتي "عدن" و"أبين" اليمنيتين اللتين تتخللهما مشاهد احتجاجية حادة اللهجة والمزاج.
رأس الدولة يتابع لجان الإعداد بنفسه، رئيس الحكومة يفعل الشيء ذاته.. ذلك ما لمسته شخصياً لدرجة جعلتني أشعر بالرهبة.
ثمة إضافة تبعث على الضحك فليس مجرد الكتابة عن الرياضة في صفحة الرأي تجاوزاً أحاول تمريره بل ولأني أكتب في موضوع لا علاقة له باهتماماتي.
لست رياضياً بمعنى الاحتراف ولا بمستوى الهواية وأضطر أحياناً لمجاراة جمهور الرياضيين اهتماماتهم على سبيل التقية وعملاً بالمأثور القائل (من تعلم لغة قوم أمن شرهم)..
وذات لقاء قديم مع صاحب السمو الملكي وفقيد الحركة الشبابية الرياضية العربية فيصل بن فهد بن عبدالعزيز تحولت المقابلة الصحفية المطولة مع الفقيد إلى سجال حول الثقافة والفكر ودورهما في تنمية القدرات الشابة وإحياء رسالة المعرفة في الوسط الرياضي وضرورة التوفيق بين حاجتي العقل والجسد معاً، ولحظة إعداد المقابلة للنشر لم تجد إدارة التحرير في مادة الحوار عنواناً يتفق مع صفة الضيف أو معلومات تشبع فضول القراء عن تطور أحوال الرياضة في بلد أكثر من شقيق..
ولا ريب أن يكون نجاح اليمن وقيادتها السياسية في التحضير للاستضافة بزمن قياسي موضع تقدير محلي وخارجي، لكن الإنجاز الذي يفوق ذلك ليس هذا وإنما قدرة الرئيس صالح على تحويل الاختيار الرياضي الخليجي لليمن إلى قرار سياسي لقادة مجلس التعاون تأكيداً للموقف المبدئي الداعم وحدة اليمن وعدالة الحفاظ عليها والدفاع عنها باعتبارها مكسبا عربيا يحسب لليمن وأشقائه الخليجيين على حد سواء..
عدا هذا الجانب يمكن اعتبار قرار الاستضافة في عداد المكابرات المعهودة في سياسات بلد يبحث في "الرياضة" عن وجه تماثل مع دول الخليج.. دون اعتبار لوضع اليمن الاقتصادي الحرج وحاجته الملحة للتركيز على أولويات رئيسة في مضمار البناء المؤسسي وإحلال دولة القانون واستدعاء الإرادة السياسية وتجريب قدرتها على رأب التصدعات الداخلية التي تستهدف مكونات شخصيته وتماسك جبهته الداخلية ودفعه – أحياناً – نحو مقدمات تمنح الآخرين حق التعامل مع نتائجها.
أنا لا أعرف إن كان جهلي بالرياضة مؤثرا على تقدير أهميتها أم إن حال بلادي صار موحشاً والبحث عن مناسبة يتنفس فيها اليمنيون هواءً صحياً ويتبادلون خلالها ابتسامات بريئة من أَردان السياسة غدا حلماً لا بدائل تعوض عنه أو أولويات تحل مكانه..
إن علاقة اليمن بدول الخليج تتطلب نمطاً آخر من المكاشفات الأخوية التي تغني عن تملق الظواهر العابرة وهي تستدعي الرؤى العميقة ووضع البدايات الجادة في طريقها الصحيح وليس مجرد الوقوف على ثغور المناسبات الاحتفالية.
وفي حقيقة الأمر فليس من بين المعجزات أن تطفو دولة على سطح الأحداث ولكن مدى ما تستطيع القيام به لتجذير وجودها ومدى ما تمتلكه من مسؤولية في أداء وظائفها ومهارة في تحديد خياراتها وقدرة على استثمار الفرص وحسن توجيهها في مضمار الارتقاء بالشعب والعمل من أجله ونيل ثقته.
أعلم أن فرحاً غامراً يملأ أجواء اليمن احتفاءً بأشقائها، وأرقب حالة زهو وانتشاء تعكسها فضاءات الرؤية المنبسطة على خليج عدن وفوق ملتقى البحرين الأحمر والعربي ابتهاجاً بالعرس الرياضي الكبير، ولكني أسأل: إذا كان هذا أثر الرياضة فقط فأي إنجازات تاريخية يمكن لليمن ودول الخليج تسجيلها على مرمى المشترك من مناجم التاريخ وجسور التراث وكوامن المشاعر الشعبية وفسيفساء البشر عندما تتاح أمامهم فرص الانطلاق نحو صناعة التحولات وإذابة الحواجز النفسية وترجمة الحكمة الإلهية في رسم وترتيب نزل الشعوب على خارطة الأرض؟
أضيف إلى ما سبق أن مشاعر الاغتباط بانعقاد خليجي عشرين على أديم اليمن وبين جوانح شعبه لا تعفينا من المسؤولية عن دراسة العديد من مؤشرات السلوك الدولي المتواتر الأعراض تجاه اليمن ودول الخليج وما تحمله الرسالة الإعلامية الغربية من دلالات استهداف يضع دول المنطقة ضمن دائرة واحدة وإن اختلفت أشكال التمويه وتعددت وسائل زراعة الأعضاء الغريبة في الجسد العربي المثخن بأمراض العصر وجراح التاريخ.