في بلدة بعيدة، يُحكى أن عُيّن رجلاً اسمه "غسان"، كمسؤول عن صيدلية المستشفى الصغير الذي يخدم أهالي تلك البلدة. ليس لأنه كان كفؤاً أو عبقرياً، بل لأنه كان الشخص الوحيد الذي يعمل بالصيدلية آنذاك. وشفع له ذلك تبرعه المستمر، بتقديم خدمات إنسانية منقطعة النظير لمدير المستشفى، فحين كان يتأخر لوعكة صحية أو لأي سبب آخر، كان غسان يفتح مكتبه، ويبعثر الأوراق على طاولته، ويضع بجوارها قدحاً ساخناً من القهوة، وكلما بردت يجددها بفنجان آخر، إلى أن يصل المدير إلى مكتبه. وإن لم يحضر يقوم غسان بجمع أوراق العمل المتكدسة على طاولته، ويأخذها إلى منزله، ويتبرع بتوصيل أبنائه إلى المدرسة. وفي كثير من الأحيان كانت إنسانيته تبلغ منتهاها، حين يتفانى بجلب مشتريات واحتياجات المنزل، حتى يتسنى لزوجة المدير البقاء بجوار زوجها ورعايته. أثناء كل ذلك كان يتكدس المرضى لساعات طويلة، أمام نافذة الصيدلية المغلقة.

بعد عدة سنوات وقبل أن يتقاعد المدير، أصبح غسان مديراً للمستشفى، ليس لأنه كان كفؤاً أو عبقرياً، بل لأن المدير القديم كان يحبه. توسع المستشفى وبدأ أبناء وبنات البلدة بالبحث والتقديم عن وظائف داخله، فلم يعجب غسان مسألة أن تكون شهاداتهم من جامعات محلية، وليست أجنبية، فرفض توظيفهم بحجة عدم مطابقة تخصصاتهم لاحتياجات المستشفى، مع أن جميع الوظائف التي قدموا عليها كانت لوظائف غير شاغرة. في تلك الأثناء كان ابنه الوحيد على مشارف التخرج من المرحلة الثانوية. فأصدر قراراً ببدء ابتعاث عشرة طلاب كل سنة للمتفوقين من أبناء البلدة للدراسة في الخارج على نفقة المستشفى. كان اسم ابنه على رأس القائمة. ليس لأنه كفؤ أو عبقري، بل لأن والده يملك السلطة ليفعل ذلك. وبعد أن مر على سفر ابنه سنة ونصف السنة، وظف "الدكتور غسان" ابنته المدللة في وظيفة إدارية براتب ضخم، ليس لأنها كانت كفؤاً أو عبقرية، بل لأنها كانت تشعر بفراغ كبير بعد سفر أخيها، أثر على نفسيتها بعض الشيء. لم يوظفها بنفسه، بل عن طريق موظف آخر كان يرأسه ذلك الوقت، لاعتقاده بأن حركة توظيفها لن تكون واضحة، ولكنها كانت كذلك. فارتفعت همهمات العاملين في المستشفى وانتقلت إلى خارجه. فعاد أبناء البلدة بالمطالبة بحقهم في تلك الوظائف. فقوبلت طلباتهم بالرفض. تعالت على إثر ذلك أصوات الأهالي، البعض نادى بمحاربة البطالة، والبعض طلب مساءلة غسان، وآخرون شددوا على التحقق من شهادة الدكتوراه التي ظهرت فجأة، والبعض الآخر طالب بإقالته من منصبه. شعر غسان بالحنق والتهديد، فلم يرفضهم هذه المرة بشكل مباشر، بل عن طريق موظف آخر تم تعيينه "لمهمة الرفض". واستقدم أثناء ذلك موظفين من الخارج، ووضعهم على تلك الوظائف الشاغرة، وحين تعرض للتحقيق تمت تبرئة ساحته، فعاد إلى عمله، وعقد اجتماعاً كبيراً، دعي إليه جميع موظفي المستشفى، وألقى عليهم خطاباً تاريخياً عن محاربة الفساد، أعلن في نهايته عن إطلاق حملة تطالب بالإخلاص والنزاهة في العمل. وختم خطابه بتهديد مباشر لكل من تثبت عليه تهمة الفساد، في نفس الأسبوع، تم فصل مجموعة من الموظفين، وعُين محلهم آخرون من معارفه. فجبنَ البقية وصمتوا للأبد.

أن تعيش تتجاهل عدداً من الأمور التي تزعجك يومياً لتحيا بسلام، فهذا أمر قد تُدربك عليه هموم الحياة، وقد تدخلك في نفس الوقت في صراع مع ضميرك ونفسك، التي تأبى أن تجاري الخطأ بالخطأ. لأن الأخطاء تبدأ صغيرة، وتهاونك وصمتك يجعلانها تكبُر حتى تصبح أكبر من حجمك، ليبقى عليك تكبد مفاجآتها، فإما أن تندفع نحوك وتجرفك، وإما أن تقف على قدميها أمامك، لتبتلع مستقبلك ومستقبل أبنائك وبلدك.

منصب الإدارة في المجتمعات العربية، أحد أكثر المناصب التي من شأنها أن تخرج أسوأ ما في الرجل أو أحسن ما عنده، فحين يُعين الرجل الكفؤ في منصب قيادي، يقدر حجم مسؤوليته ويخرج أفضل ما عنده من أفكار وابتكارات، وحين تضعه نفوذ الواسطة، أو الاختيار السيئ على من هم أكفأ منه، يُخرج أسوأ ما عنده من سوس وعقد وإحساس بالنقص. ومهما تقلد الرجل غير الكفؤ من المناصب القيادية، فالجميع يراقب عملية صعوده للأعلى، مترقبين اللحظة التي سيهوي بها بمنصبه إلى سابع أرض.

فمن يقضي سنوات من العطاء بإخلاص من جهده الشخصي في العمل، ستلتقط أنفه على الفور رائحة المدمر الأخلاقي "الواسطة"، دون أن يتجشم أي عناء لرؤيتها بعينيه. فالواسطة لها رائحة عطنة نفاذة، تخترق كل المحاولات الإدارية المستميتة لتوريتها أو تبريرها، وعادة من يحاول التقليل من شأنها لا يكشف عن كفاءة أو عبقرية، بقدر ما يكشف عن حماقته وفشله في محاولة إخفاء رائحتها.

وستبقى المناصب القيادية من أكثر المناصب حساسية وإثارة، فالقرارات التي يصدرها أي مدير تضعه دوماً تحت مجهر موظفيه، في حالة كان رئيس قسم محدود السلطة مثلاً. وإن كان رئيساً تنفيذياً في قطاع خاص أو حكومي أو حتى وزير، حتماً بذلك سيكون تحت أنظار شعب دولة بأكملها.