وقَع قرارُ المحكمة العليا، في إعلانها بداية شهر ذي الحجة الحالي، ضحيةً للمبادرين بالشهادة برؤية ما يتوهمونه هلالا في بداية الشهر الهجري.
ولم يكن قبول المحكمة شهادةَ الواهمين الوحيدَ اللافتَ للنظر هذه المرة؛ فقد نشرتْ (27/11/1431هـ) بيانا يطلب ترائي هلال ذي الحجة مساء السبت 29/11/1431هـ، بتقويم أم القرى. وبَنتْ ذلك البيان على أنها كانت قد نظرت في التقارير الواردة إليها "من اللجان المشكلة لترائي الأهلة في مناطق المملكة بمشاركة مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية المتضمنة عدم رؤية هلال شهر ذي القعدة لا بالعين المجردة ولا بواسطة المناظير ليلة السبت 1/11/1431هـ حسب تقويم أم القرى".
وكان المتوقع أن يدعو هذا الوضع المحكمةَ إلى اتخاذ قرار شبيه بقرارها الذي اتخذتْه في إدخالها شوالَ هذه السنة، أي أن تُكمل شوال ثلاثين يوما لعدم رؤية هلال ذي القعدة مساء 29/10. ولو فعلتْ لكان يوم السبت 29/11/1431هـ بتقويم أم القرى هو الموافق لـ 28/11 ، ولكان يوم الأحد 1/12/ بتقويم أم القرى هو التاسع والعشرين منه، ولكان أولُ ذي الحجة هو الاثنين 2/12/1431هـ، بتقويم أم القرى. لكن لو حدث ذلك لعنى أن المحكمة أعلنت طلب ترائي هلال ذي الحجة مساء 28/11، لا 29/11، وهذا غير مقبول.
فما الذي دعا المحكمة الموقرة إلى إدخال ذي القعدة مساء السبت 29/10 بتقويم أم القرى، ليكون الأحد بداية شهر ذي القعدة؟ ومن المعروف أن تقويم أم القرى يقوم على معيارين وضعتْهما مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية: أن يحدث الاقتران قبل غروب الشمس، وأن يمكث القمر فوق الأفق بعد غروبها ولو لمدة وجيزة، وقد حدد تقويم أم القرى بداية ذي القعدة بيوم الأحد لحدوث الاقتران قبل غروب شمس يوم السبت ولوجود الهلال فوق أفق مكة المكرمة بعد غروبها مساء ذلك اليوم على ارتفاع ثلاث درجات ونصف وغروبه بعد غروبها بثماني عشرة دقيقة.
فهل يعد إدخالُ المحكمة العليا ذا القعدة في تلك الليلة، وهو ما يتوافق مع تقويم أم القرى القائم على الحساب الفلكي، اعترافا بصحة ذلك الحساب؟ أم يعود إلى أنها لا تشترط الرؤية إلا في بدايات شهور رمضان وشوال وذي الحجة، وتأخذ فيما عداها بحسابات مدينة الملك عبد العزيز الفلكية؟
والمتوقع أن تبيِّن المحكمة موقفها من هذه المسألة المهمة حتى تكون قراراتها مفهومة. والسؤال الآن: لماذا لم ير الشهود "العدول" هلال ذي القعدة مع أنه كان على ارتفاع أكثر من درجتين في منطقة الرياض بعد غروب الشمس مساء السبت 29/10 بتقويم أم القرى، وهم الذين يبادرون دائما بالشهادة برؤيته قبل غروب الشمس، أو وهو على ارتفاع درجة واحدة أو أقل، كما حدث في بداية رمضان وبداية ذي الحجة هذا العام، بل وهو تحت الأفق كما في مرات سابقة كثيرة؟!
ولا تقف المشكلة عند هذا؛ فهناك مشكلة أخرى في قبول المحكمة شهادة "الشهود العدول" في إدخال شهر ذي الحجة. وبداية ذي الحجة هذا العام صحيحة بحسب معياري مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، لكن الهلال كان، بعد غروب شمس يوم السبت 29/11/ بحسب تقويم أم القرى، على ارتفاع ربع درجة في منطقة الرياض، ونصف درجة تقريبا في مكة المكرمة. ومن المعروف بين الفلكيين أن مثل هذه الدرجة المنخفضة جدا والمقترنة بنسبة إضاءة ضئيلة جدا للقمر لا تسمح للعين البشرية برؤيته حتى باستخدام أدق الأجهزة الحديثة.
وقد قررت اللجان كلها المكلفة بتحري هلال ذي الحجة في المملكة أن أحدا من الفلكيين السعوديين المشاركين فيها، أو غيرهم، لم يره تلك الليلة حتى باستخدام أحدث الأجهزة الرصدية. ومن هؤلاء الأستاذ صالح الصعب، المتخصص في الفلك في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، في تقرير أرسله لـ"المشروع الإسلامي لرصد الأهلة" قال فيه إن: الجو في الرياض (مساء السبت) كان غائما جزئيا، وأحوال الطقس مضطربة، ولم ير الهلال لا بالعين المجردة ولا بالمنظار المقرِّب، ولا بالتلسكوب، ولم يستخدم جهاز CCDفي ترائيه (ليقين المترائين باستحالة رؤية الهلال بأية وسيلة). ولم يره أحد في المنطقة العربية والعالم الإسلامي في تلك الليلة.
فكيف يستطيع هؤلاء "الشهود العدول" رؤية هلال لم يره أحد في المملكة ولا في المناطق المجاورة؟ ولماذا تثق المحكمة بهؤلاء مرة أخرى وقد جرب عليهم الوهم مرات كثيرة جدا وتترك الأخذ بتقارير اللجان الموثوقة؟
أيمكن أن يكون سبب قبولها شهادة هؤلاء الواهمين أنها تعرف من تقارير مدينة الملك عبدالعزيز المنشورة منذ بداية السنة بأن الهلال سيكون فوق الأفق تلك الليلة فتساهلت في قبول "شهادة" هؤلاء الواهمين؟ وربما يعود الأمر إلى أن المحكمة الموقرة تحاول أن تختط طريقا وسطا يتمثل في عدم ممانعتها من قبول شهادة من يتقدم لها بأنه رأى الهلال إذا كانت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية تقول بأن الهلال في تلك الليلة فوق الأفق، ولا تقبلها إن كانت المدينة تقول بأنه تحت الأفق.
لكن هذا يثير مسألتين مهمتين تتعلق أولاهما بالشهادة. فالشهادة أمر مستقل بذاته عن أي شيء يمكن أن يؤيدها من خارجها. ويعني هذا أن كون الهلال فوق الأفق لا يكفي للاطمئنان إلى شهادة الشهود، ذلك أن ما يمكن أن يكون تعضيدا للشهادة هنا، أي كون الهلال فوق الأفق، يعارضه أمر آخر يعد تكذيبا لها، وهو قول الفلكيين المتخصصين بأنه لا يمكن رؤيته إن كان فوق الأفق على درجة منخفضة تماثل الدرجة التي كان عليها في بداية شهر ذي الحجة.
أما المسألة الأخرى فهي موقف المحكمة من الحساب الفلكي. إن قبول شهادة من يشهد برؤية الهلال استئناسا بقول الفلكيين بأنه فوق الأفق يعني في المحصلة النهائية قبولا بالحساب في إثبات دخول الشهر. ومن المعلوم أن قول الفلكيين بأنه يرى أو لا يرى لا يقوم على مشاهدة حسية للهلال بل على الحساب. ومن هنا فاستئناس المحكمة بالحساب في بعض الحالات وعدم استئناسها به في حالات أخرى تناقض غير مقبول ولا يمكن تعليله لا علميا ولا شرعيا.
إن زعم هؤلاء الواهمين برؤية الهلال عند درجات منخفضة أمر لافت ويخالف الحسابات والمشاهدات كلها في العالم. ويعني هذا أنهم يقومون، لو كانت "شهادتهم" صحيحة، بعمل فريد يجب أن يسجل في الدوائر العلمية العالمية المختصة لحفظ حقوقهم بالسبق لهذه الأرقام القياسية. أما عدم تقدمهم لتلك الدوائر العلمية بهذه الإنجازات الخارقة فيحرم وطننا من تسجيل سبق باهر حققه بعض أبنائه ويجب الفخر به!