التحديات العربية الراهنة لا يمكن اختصارها في الحروب والدمار والتشرد والانهيارات التي تشهدها العديد من الدول العربية ومجتمعاتها الوطنية، ولا يمكن اختصارها في التدخلات الإقليمية والدولية البالغة الخطورة، والتي تعمل عن سابق تصور وتصميم على تفكيك مجتمعاتنا الوطنية العربية، ولا يمكن اختصارها أيضا في انجذاب مجموعات عربية طائفية وعقائدية إلى تلك المخططات التي تهدد وجودنا واستقرارنا.

هناك أمور ربما تكون أكثر خطورة على المجتمعات الوطنية العربية، وهي شطحات وتطيّر بعض النخب العربية التي تعاني من تضخم في الذات إلى حد الاعتقاد بأنها حاجة ضرورية إلى كل مجتمع وطني عربي، وإلى نصائحها وتوجيهاتها، والذهاب بعيدا في ذلك التوهم إلى حد التدخل غير الموضوعي في الخصوصيات الوطنية للدول العربية ومجتمعاتها الوطنية.

لا أحد يستطيع أن يمنع أي مواطن عربي من الخوف والقلق على أخيه العربي في أي دولة أو مجتمع، ولكن ذلك لا يعطيه الحق في عدم احترام الخصوصيات الوطنية للأشقاء العرب أينما كانوا على قاعدة "أهالي مكة أدرى بشعابها"، وهذا لا يعفينا أيضا من التعبير عن الحزن والقلق على مستقبل بعض التجارب الوطنية العربية، خصوصا في دول النزاع، والتعبير عن الحرص على سلامتها وخروجها مما هي عليه، وكذلك الحرص على استقرار وتقدم الدول والمجتمعات التي لا تزال تحتفظ بأسباب الاستقرار والنجاح، حتى ولو كنا نرى في بعض الأحيان ما يدعونا إلى القلق وأحيانا إلى الغضب، ورغم كل ذلك لا يجب أن تأخذنا هذه المشاعر بعيدا إلى حد التدخل في خصوصيات التجارب الوطنية، ومن المفيد أن يكون الحوار مباشرا مع أهل النخبة أو القرار في تلك الدول والمجتمعات، مع الاحترام التام لخصوصياتهم، وأن نترك لهم تقدير أهمية هذا الرأي أو ذاك، بعيدا عن المهاترات الإعلامية والحديث عن بعد.

لقد شهدنا في الأسابيع الماضية، وقبلها أيضا، العديد من الشطحات والارتجالات، وكان مصدرها بعض النخب العربية المصرية والخليجية وغيرها، هذا بالإضافة إلى سيل من التهور النخبوي المشرقي في لبنان وسورية والعراق، وكلها تدور حول ادعاء المعرفة الكاملة لدى هذا المثقف أو ذاك، إلى حد العبث بالخصوصيات الوطنية، وبعضها ذهب إلى حد الإساءات.

لقد تركت شطحات السادة المثقفين أثرا سلبيا لدى المجتمعات المعنية بالاستهداف، إلى حد أننا كدنا نخسر الإيجابيات التي تراكمت خلال السنوات الماضية بين هذه الدول الشقيقة في أكثر من مجال، مع العلم أن الدول المأزومة وشعوبها ترى هذه العلاقات الإيجابية فيما بين دول الاستقرار العربي، وفي مقدمتها دول الخليج ومصر، بمثابة خشبة خلاص لها مما تعانيه، إلا أن هؤلاء المثقفين وبادعائهم المعرفة والحق في التدخل بالخصوصيات الوطنية، كادوا يتسببون في خراب جديد فوق الخراب الذي نحن عليه.

لا يجب أن نترك لمثقف من هنا ومثقف من هناك العبث بما تبقى من استقرارنا الوطني والعربي، وهذه ليست مسؤولية الحكام أو الأجهزة الرقابية، بل هي مسؤولية عموم المثقفين الحريصين على صيانة الاستقرار الوطني والعربي، كي نستطيع أن نواجه تحديات مجتمعاتنا ما بعد النزاع كما حصل في لبنان. ولا يجوز أن نسمح لهذا المثقف المدعي أو ذاك بالعبث في الخصوصيات الوطنية والثقافية للدول والمجتمعات العربية.

أتمنى أن نواجه كل هؤلاء الذين يصبّون الزيت على النار، ويزرعون أسباب الشقاق العربي العربي، وأن ندعوهم إلى التخلي عن هذه المهمة التي لا تليق بمثقف أيّا كان مستواه وفي هذه الظروف الدامية والموجعة من تاريخنا، وأن يرتاحوا، فهناك الكثيرون من غير العرب يتولون هذه المهمة غير المشرّفة.

وعلينا جميعا أن نشكل شبكة أمان لاحترام الخصوصيات الخليجية والمصرية، وفي هذه الظروف الدقيقة والحرجة، بما أنهم قاطرة الاستقرار والأمان للمجتمعات العربية المأزومة.