الكفاءة في نظري تتضمن الولاء، ومن ليس مواليا ناصحا صادقا، فليس من أصحاب الكفاءة أصلا. والكفء: يبذل النصح والرأي السديد، لرئيسه ولعمله، ولا يغش بالمدح الكاذب، فإن قُبِلَ رأيه ونُصحُه فذاك، وإلا فقد أدى ما عليه.
ومن الكفاءة حسنُ القيادة والإدارة، بأن يرفق بمن تحت ولايته، ويختار لهم ما يصلحهم، ويعدل بينهم، ويسوسهم بالحكمة، ولا يعطيهم ما يهوونه إن كان ذلك لا يحل لهم، ويرفق بهم إذا منعهم، ويوجد البديل النافع لهم، وإذا أراد أن يتخذ قرارا نافعا، وفيه مرارة عليهم، ويخشى أن ينفروا بسببه، فإن عليه: أن يختار الوقت المناسب لإصداره، قال عمر بن عبدالعزيز: "إني أريد أن أخرج لهم المرة من الحق، فأخشى أن ينفروا عنها، فأصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا، فأدفعها معها، فإذا نفروا لهذه، سكنوا لهذه".
وهذه القيادة المتزنة، والسياسة الحكيمة، لا تتأتى إلا مع القوة والأمانة اللتين هما دليل الكفاءة، وإذا كان اجتماع القوة والأمانة في الناس قليلا، كما جاء في الحديث الصحيح: "الناس كالإبل المئة لا تكاد تجد فيها راحلة"، فحينئذ يلزم -كما يقول ابن تيمية- اختيار الأصلح في كل ولاية بحسبها، فإذا تقدم رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررا فيها، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا، لأن الفاجر القوي، قوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
وإذا كانت الأمانة تقتضي تولية الأصلح، فإن من الخيانة العدول عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة، أو صداقة، أو موافقة في بلد، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة، أو غير ذلك من الأسباب، قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون".
والدين والعقل يقتضيان: الورع، وألا يتطلع الإنسان للولايات، فإن أتته من غير مسألة ولا استشراف، فإن الله يعينه عليها، وإن أتته عن مسألة وُكل إليها، والعاقل يعلم أن العافية والسلامة لا يعدلهما شيء. وهذه الولايات وإن كان يُقال عنها: نعمت المرضعة، إلا أنها: بئست الفاطمة.
فالرغبة في تولي الولايات، والسعي إليها، ربما يدل على عدم استشعار المسؤولية، وأن طالبها يراها غنيمة يأكل منها، وبها، وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي أن من علامات الساعة "اتخاذ الأمانة مغنما"، أي: يتخذ الولاية: غنيمة يأكل بسببها ما لا يحل له، فيكون ذلك سببا لدخوله النار.
ولهذا جاء في الحديث أن رجلا غلَّ شَمْلَةً في الغزو -والشملة: كِساء غليظ يُلْتَحف به- فكانت عاقبته سيئة، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها تشتعل عليه نارا.
وبعض الناس يظنون أن أموال الدولة غنيمة، يأخذون منها ما لا يحل لهم، مما هو ليس مجرد كساء يلتحف به، وربما استدلوا بكثرة من يفعل ذلك، أو أن لهم حقا في بيت المال، وهذا من جهلهم، لأن خطأ غيرهم ليس حجة لهم يوم القيامة، فكلٌ مسؤول عن نفسه "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، وفي الحديث: "إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة" رواه البخاري.
وهذا الرجل الذي أخذ الشملة، ودخل النار، لم يكن دعوى أن له حقا في بيت المال، منجيا له.
فالذي يتخذ الولاية غنيمة، يأكل منها ما لا يحل له، أو يستغل نفوذه فيها لتحقيق مطالبه في أماكن أخرى، على خطر عظيم، كما أن الذين يسرقون المال بطريقة منظمة، ويُحرِّفون الأنظمة، ويَسُنُون منها ما يوافق أهواءهم، خطرهم أعظم، لأنهم يسيئون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، فيستمرون ولا يتوبون، لظنهم أن حِيَلَهم تنفعهم، وفي الحديث: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"، فهؤلاء ظلموا أنفسهم، لأن كل لحم نبت من الحرام فالنار أولى به، وسيسألهم الله عن هذه الأموال من أين اكتسبوها؟، ولن تنجيهم حيلهم وفواتيرهم وأوراقهم الكاذبة، فالله يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.