كانت معلومة مجردة، كلمات مجتمعة لا تتجاوز العبارة، أعتقد أن قائلها لم يجتهد في إقحامها داخل عقلي المتمترس بكمية لا بأس بها من ثقافة الانتقاء، إلا أن ما بها من سحر البيان كان أقوى من دفاعات عقلي، لم يتبق على تحول هذه الكلمات البسيطة إلى قناعة عليها أغفو وعليها أفيق، إلا تحطيم قيود بوابة الشك التي تستوقف كل ما استقبلته الحواس الخمس، ما عدا الموحى من خالق الحواس وصاحبها.
ما أحمله من فضول وشك، وما كنت أظن أن محيطي يحمله من معرفة، كسر لدي حاجز الصمت؛ فانطلقت أجادل كل من لقيته في طريقي عن صحة تلك المعلومة، كان بحثي عن مصداقيتها يُقابل بالاستغراب قبل التأكيد، إذ إن هذه المعلومة باتت شيئا متوارثا لا يحتمل الشك، ولا يمكن إبقاؤها هكذا دون أن تتحول إلى قناعة؛ اليوم أصبحت فردا من قطيع المقتنعين.
ولكن...
بقيت في عقلي منطقة صغيرة ترفض تلك القناعة، أترى هذه المنطقة هي مصدر تمردي المعتاد؟ إذا كانت كذلك فلا بأس سيصيبها ما أصاب بقية المناطق في لحظة ضعف تعتريها، أم تراها خلية فاسدة من فلول الشك ترفض التسليم دون اكتمال الحجج التي على أساسها تنمو القناعة؟ قاتل الله الشك، سيجعلني الفرد المتواطئ بين القطيع. هل لهذه الحيرة من دواء؟
سأقرر الابتعاد قليلا عن محيطي، أريد البحث عن الطريق الصحيح وحدي، دون الاعتماد على من تملكتهم تلك القناعة، كنت قد قرأت أن أفضل السبل للرد على مخالفيك هو دراسة أسباب اختلافهم معك، من ذلك الجانب الذي ينطلق منه خلافهم، ثم مقارنته بالجانب الذي تستوحي منه أسباب اختلافك.
في اليوم الأول من عزلتي القصيرة، قررت أن أتتبع جميع الأقوال المتعلقة بتلك المعلومة المحيرة، كتاب حوّل قناعتي إلى عقيدة، وكتاب آخر جعلها هرطقات وخزعبلات! دراسة أوضحت أن تلك المعلومة تعتبر من أركان الإنسانية، ودراسة أخرى بينت أن متبعي تلك القناعة لا يختلفون عن الحيوانات سوى بالنطق.
الآن بقيت المقارنة، في اليوم التالي من عزلتي سخّرت جميع الإمكانيات التي أمتلكها لمقارنة كل ما استجمعته من قراءات، حتى انتخبت ذلك المسار الذي لم يجعل لأي ذرة في عقلي حقا للرد والتمرد، لم أضع في صندوق اعتباراتي أي أهمية لرأي القطيع، أجزم أن ما أحمله الآن من قناعة سيغضب القطيع أو ربما يثير استغرابها مني في أصلح الأحوال، إلا أنني كنت أتمنى أن يتصالح ما حمله عقلي من قناعات مع بعضها البعض، دون أن يكون للتناقض حق للسيطرة على أفكاري.
بعد يومين من العزلة: أحببت ذلك الجزء من رأسي ووثقت بقدراته.