منذ التاريخ الأول للبشرية، كانت شريحة الأطفال هي التي تتحمل القسم الأكبر من فاتورة الحروب، قتلا وترويعا وفقدانا للوالدين، ولكن في عصرنا الحالي تضاعفت الفاتورة، لتشمل الانقطاع عن التعليم، والحرمان من الأمل في غد أفضل. وفي زمن الانفجار الفضائي وما بات يعرف بثورة التقنية، انتشرت العديد من الصور التي تجسد مآسي الأطفال، وطارت بها وكالات الأنباء والفضائيات والصحف العالمية، وأسهم نشر بعض تلك الصور في اتخاذ مواقف دولية مؤثرة وحاسمة، على غرار الصورة التي نشرت إبان حرب فيتنام وجمعت رضيعة تقبع داخل كرتون إلى جوار شقيقها ذي السنوات الأربع، بعد أن توفي والداهما بنيران الجيش الأميركي! وفور نشر الصورة في وسائل الإعلام الغربية، بادرت الولايات المتحدة –سعيا وراء تحسين صورتها –إلى إرسال بعثة طبية لرعاية أطفال فيتنام، وإحضار المصابين منهم إلى واشنطن وعلاجهم على نفقة الدولة.

ما ساقني إلى تلك المقدمة هو الأحداث التي تشهدها منطقتنا العربية، والصور المؤلمة التي تنشرها بعض وسائل الإعلام لعائلات عربية في اليمن، وسورية، وليبيا، والعراق، كانت حتى الأمس شامخة أبية، ترفض الذل ويفضل رجالها الموت على التعرض لعروضهم وأطفالهم. هذه العائلات باتت بلا مأوى ولا ملاذ، وفقدت عائليها ومن كانوا ينافحون عنها، وأصبحت في انتظار ما تجود به منظمات الإغاثة والعون الإنساني.

ومما يحز في النفس هو أن صور النساء والأطفال والشيوخ، وهم يكادون يموتون جوعا وألما وقهرا، لم تعد تحدث في نفوسنا ذات الأثر الذي كانت تحدثه بالأمس القريب، مما يرفع ألف سؤال حائر، وألف علامة استفهام. هل تحجرت مشاعرنا وأصبحنا قساة، بلا مشاعر ولا إحساس؟ هل تبخرت مروءتنا وشهامتنا؟ أم أننا أصبحنا ضعافا لا حول لنا ولا قوة، فاستسلمنا لقدرنا ورضينا بهذا الواقع؟

قبل أيام بثت الوكالات العالمية صورة الطفل السوري عمران، الذي تم إنقاذه بعد تدمير منزل عائلته في غارة شنتها طائرات الجيش الروسي المساندة لطاغية العصر بشار الأسد، الذي رهن نفسه وبلاده لتطلعات وأوهام الإمبراطورية الفارسية المدحورة، وارتضى أن يكون مخلب قط، يمارس أسوأ أنواع العمالة والخذلان، وفتح بلاده لتصبح ملعبا لأصحاب الأجندة الخاصة، التي ما اقتربت يوما من مصلحة الشعب السوري، ولم تراع منفعته، ليكتفي بالتفرج على هذا البازار العالمي، دون أن تكون له القدرة حتى على السؤال وإبداء الرأي. حتى التصريحات العدوانية التي كان يطلقها بين الحين والآخر لم يعد يطلقها، ويبدو أن من يسيرونه ويملون عليه الأوامر يستكثرون عليه القيام بذلك الدور، فأمروه بالصمت.

ولأن الأسد وزمرته لا يستحقون حتى كلمات الانتقاد، أعود مرة أخرى إلى موضوع الصورة التي أقامت الدنيا وأقعدتها، فنظرة اللوم والعتاب التي كانت تنطلق من عيني عمران اختزلت كل الكلمات، ولا أخال شخصا تمعن في أمواج الحسرة وطوفان الألم الذي انطلق من نظراته، إلا وانحدرت على وجنتيه دموع ساخنة، تأسف للواقع الذي انحدرنا إليه، وتنعي زمنا كانت فيه جيوش العرب تسير لنصرة امرأة وحيدة، أطلقت صرخة استغاثة بالمعتصم. فلماذا بتنا أجسادا بلا أرواح؟

أعود بالذاكرة إلى بداية الألفية الجديدة، وبالذات في 30 سبتمبر عام 2000، عندما اغتالت رصاصات الاحتلال الإسرائيلي الطفل محمد الدرة، وهو في حضن والده المغلوب على أمره، وأثارت تلك الصورة العالمين العربي والإسلامي، وتسببت وفاته في إشعال انتفاضة الأقصى. ولم يكد يخل بيت في العالم العربي إلا ويعلم قصة جمال الدرة وابنه الذي قتل برصاص الاحتلال الإسرائيلي، ودبجت في ذلك القصائد وكتبت المقالات، وأطلق اسم الدرة على الشوارع والمؤسسات الثقافية والأدبية في بعض الدول، فلماذا تفاعلنا في السابق وتبلدت مشاعرنا الآن؟ ولماذا صارت مشاهد الموت والدمار مألوفة في عالمنا اليوم؟ هل تشبعت نفوسنا من مشاهد القسوة حتى لم تعد تفعل فينا شيئا؟

لا تقتصر تلك الصور المؤلمة على سورية والعراق فقط، فها هم أطفال اليمن السعيد، يكابدون مآسي مماثلة، ويحرمون من مواصلة تعليمهم، ويساقون إلى معسكرات التجنيد غصبا عن والديهم، ويبعثون إلى جبهات القتال بواسطة ميليشيات الموت الحوثية، ليعودوا منها بعد أيام قلائل نعوشا تُحمل إلى مثواها الأخير!

تساؤلات كثيرة تدور برأسي، من الذي يملك القدرة على تبرير مثل تلك الأفعال الخاطئة للأجيال المقبلة؟ وهل يظن المتسببون في تلك الفظاعات أن تدمير مستقبل طفل، أو وضع حد لحياة إنسان هو أمر عابر يمكن تجاوزه وغض البصر عنه؟ ما الثمن الذي يمكن أن يوازي ذلك؟ إلا أنه بإمعان التفكير يبرز التفسير الوحيد، وهو أن نظام الملالي في إيران، الذي هو القاسم المشترك بين كل تلك الصور المؤلمة، لا يقيم وزنا لكل ما يمكن أن يحيق بالدول التي تدخل فيها، واستغل بعض أقلياتها، وحرضهم على دولهم وحكوماتهم، وأطلق مارد الخلافات المذهبية من عقاله، وغذى الأحقاد، وأجج الفتن، وأضرم النيران لتحقيق هدف غابر، تجاوزته وقائع العصر وإحداثيات الواقع المعاش، لكن من ما زالوا يفكرون بعقلية القرون الوسطى يرفضون إلا أن يعيدوا الآخرين إليها.

إذا لم نكن نستطيع فعل شيء، كمجتمع مدني، بفعل التعقيدات العالمية والحسابات السياسية، فلا أقل من أن نتعاطف مع ضحايا تلك الحروب، وأن نفعل ما نستطيع لمد يد العون لهم، والتخفيف من مصابهم وآلامهم، ولو بألسنتنا وقلوبنا، وهذا أضعف الإيمان.