كتب الحوارات مهمة، إنها كتب التواقيع الشخصية، ليس لأن مادتها تجمع بين الجاذبية والعمق والأسرار فحسب، بل الأهم من هذا أنها تشي بالنفس والعوالم التي اعتملت، ونضجت فيها التجربة، بالذهن واللغة، وحتى المهارة التي أنجزت أعمالها الرائعة، ومن فم صاحبها. حوار بلينيو مندوزا مع ماركيز في "رائحة الجوافة" مثلاً، حوار كارلوس كاتانيا مع إرنستو ساباتو في "بين الحرف والدم" مثلاً، حوار صقر أبوفخر مع أدونيس في "أدونيس.. الطفولة، الشعر، المنفى"، ومثلاً؛ إسكندر حبش مع عبدالرحمن منيف، في ثلاثة حوارات، في فترات متباينة من السنين، وهكذا يلزم فهمها، وجمعها في كتاب "القراءة والنسيان".. إلى غير ذلك من كتب الحوارات الملهمة، بكل ما فيها من محاولات الرصانة، والاحتراز التاريخي المفعم والأناقة.
يسأل حبش: "ماذا تريد من الرواية تحديداً؟" يجيب منيف: "بالنسبة إليّ، الرواية هي إحدى الصيغ التي يمكن للإنسان، من خلالها، أن يتواصل مع الآخرين، ويعبر من خلالها عن كمٍّ من الأحلام والرغبات والصور، والأشياء التي يجب أن يشرك الآخرين في رؤيتها، والتعرف عليها، هي ليست رسالة سياسية بمعنى ما، وإنما هي رسالة وعي، رسالة متعة، لا رسالة اكتشاف، هذا تصوري للرواية". سؤال آخر: "إذا فكرنا بكاتبٍ راهن، من جيلك، كونديرا مثلاً، ماذا يعني لك كونديرا؟ هل يعني تحدياً من نوعٍ آخر؟"، ومنيف قال: "يعني إلى حدٍ ما. ولكن أشعر أيضاً بأن عنده أشياء مسبقة، وعنده فكرة يريد إقناع الآخرين بها، ويمتلك من البراعة والقوة ما يؤهله للتعامل ضمن هذا السياق، وأنا أحسّ في بعض الأحيان أن الحياد، بالنسبة للرواية أو أي عمل فني، أنسب للمواقف، أرى أن هناك كمّاً من الكتابات، العنصر اليهودي، وحتى الصهيوني، موجود فيها، لكنه مبطن ومغلف، وغير مباشر، لذلك أشعر بأنه حين يكون هناك لغم في الرواية، فيجب التعامل معه بهدوء وحذر".
عبدالرحمن إبراهيم منيف (29 مايو 1933 - 24 يناير 2004) يعود إلى قرية قصيبا، شمال مدينة بريدة، بالمملكة العربية السعودية، وسنواته السبعون هذه، كانت مثار أزمة دوماً، حتى بالنسبة له هو ذاته، وما زال مثيرا أيضا، حتى بعد موته، وسيبقى محلّاً للقراءات على الدوام.
صدر هذا الكتاب في عام 2015 عن دار طوى، وعلى غلافه الأخير: "يكفي أن نتذكر منيف بأن نعود لنقرأه، ولنكتشف كم هي عديدة الأسئلة التي طرحها واقترحها، ولم ننتبه لها".