إن أجمل ما يمكن أن نكسبه من السيئين في حياتنا، أننا نتعلم ألا نشبههم يوماً، نتذكر كم من الأخطاء التي تركوها في مشاعرنا، ونحاول ألا نتكئ طويلاً عليها، بل نقاوم هذا الانزلاق المضطرب، لأناس مضطربين لا يمكن لهم أن يتعايشوا مع نجاح الآخرين. تذكرت الكلمات التي تكتب في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، حينما لا يعجب البعض ما تكتبه أو حتى ما قررت أن تكتبه مستقبلاً، هؤلاء الذين يطالبون بالحرية هم أول المتقدمين لشتمك، والوقوف أمامك بعنصرية مقيتة، تجعلك لا تنفك مفكراً إذا ما كان هذا هو سلوك الأحرار، فلماذا إذاً نعاتب المراهقين وطلاب المدارس المتوسطة الذين لا يزالون يعيشون في قفص أسرهم إذا ما هاجموا أفكارك؟ إنهم يتساوون تماماً في سحق كرامة الطرف الآخر، وقتل حرية الآخرين في أن يفكروا كما يشاؤون.

ولأن عليّ أن أكون حذرة تمام الحذر وأنا أتحدث عن نجوم الوسط الثقافي، هؤلاء الذين يفوقونك تجربة وخبرة ونجاحاً، كان عليّ أن أتريث وأنا أكتب عن الهوى الذي نطق به الروائي المصري يوسف زيدان، لأنه تحدث عن التاريخ، رغم تراجعه بعد الهجوم الساحق عليه إثر حديثه عن جزيرة العرب، وقال إنه لم يقصد الجزيرة العربية، وإن الهجوم الذي تم ضده كان ممنهجا ومتهاتفا وكاذبا، وأوضح صاحب رواية "عزازيل"، أنه لم يكن يقصد بقلب منطقة الجزيرة العربية كل جزيرة العرب.

كان زيدان قد ظهر في مقطع فيديو أثناء محاضرة ألقاها في طنجة، طرح فيها رؤيته أمام عدد من الجماهير، ولا يمكن لنا أن نكون مثالا للسيئين الذين يقذفون أي رأي لأنه فقط خالف هواهم، ألغى زيدان بقصد أو دون قصد تاريخ حضارة كاملة للجزيرة العربية، ولا أفهم لماذا صفق الكثيرون للدكتور عيد اليحيى في حديثه لقناة العربية، رغم أنه ليس ضليعاً في علوم اللسانيات أو فقيهاً بتاريخ اللغة العربية، ولكن من الجيد الخطوة التي قادها الحساب الرسمي لهيئة السياحة والتراث في المملكة، حينما بادر بنشر عدة تغريدات رداً على زيدان، حيث قالت إن مكة المكرمة البوتقة التي انصهرت فيها لغات الشمال والجنوب، ونتجت منها لغة القرآن التي يفهمها أهل اليمن وأهل الشام، وأضاف الموقع أن وسط الجزيرة العربية كان همزة الوصل بين الشرق والغرب، ويبدو أن زيدان فوجئ بالهجوم عليه ولم يتوقع أن يتصدر ما قاله في طنجة موجة غضب شديدة.

لكن ذلك لا ينفي أن زيدان قد ترك للمكتبة العربية إرثا كبيرا من الكتب الجديرة بالقراءة، وهذا هو الإنصاف الحقيقي، ولا يمكن لنا إغفال نجاح كتبه، ولكن الذي لا يعرفه البعض، أن زيدان لم يكن يثير البلبلة تجاه الخليج أو السعودية تحديداً، فقد سبق أن تهكم على الجزائر في أحد مقالاته وكتب ليقول: "وكانوا حانقين على بلادنا، لأنها حسبما كانوا يقولون (متخلِّفة).. ولأنني، على نحوٍ ما، صعيدي الأصل ولا يخلو باطني من صفات الصعايدة، فقد أثارني انتقادهم الدائم لنا، وهم بيننا يتعالمون ولا يتعلَّمون، فقلتُ لهم يوماً في نقاشٍ جمعنا، وبعدما فاض بي الكيلُ من كلامهم وبلغ بي السيل الزُّبى، ما ملخصه أن المغاربة أكثر رقياً وتحضراً من الجزائريين، وأن المغرب بلد حقيقي عرفناه في التراث وفى الحاضر، ولكن تراثنا لا يعرف بلداً اسمه (الجزائر)، ولم يستخدم أحد هذه التسمية غير المطابقة لواقع الحال، أعني لهذه الصحراء التي تمتد في كل الجهات، وتمتد في نفوس الناس. ولذلك لم تصح أخلاق سكان الجزر لسكان الجزائر، لأن سكان الجزر عادة ظرفاء".

ما يمكن أن يشفع لزيدان أنه اعتاد على الانتقاد بشكل علني وظاهر، ورغم كل ما يقوله وما سيقوله لاحقاً، سوف تتم دعوته لإلقاء المحاضرات وسيتم تكريمه، لأننا ببساطة شعوب طيبة جداً، ولكن في مقابل ذلك عليّ أن أكون بمثل شجاعة زيدان، ولكن سأترفع عن أن أكتب ما لا رأيته أو علمته، لأقول الحقيقة التي يعرفها البعض منا ويصم البعض الآخر أذنيه عنها، بأن هناك إعلاميين كثرا حاملو الجنسية العربية، وأستطيع أن أستثني منهم الإعلاميين المصريين، مثمنة على أنهم شعب يشبهنا في طيبة قلبه، وحبه وكرمه لبقية الشعوب، هؤلاء الذين يظهرون كمذيعين لنشرات الأخبار في القنوات الفضائية الإخبارية الخليجية، ويتسلمون رواتب شهرية أكثر مما يستحقون، وكل ما يمتلكونه أنهم يظهرون على الشاشة لا أكثر ولا أقل، وما إن ينتهي أحدهم من عمله حتى يذهب لأقرب مقهى ويظل يتندر على الدولة التي تضع اللقمة الطيبة في فمه، ويصفق لكل ما يقوله زيدان ضد الخليج، ولو أن المذيع ذاته لا يدين لتاريخ مصر العظيم، ويشمئز من فكر جمال عبدالناصر، ويتفكه على المصريين لفرط طيبتهم، لكننا لا نزال في نظره الضعيف مجرد بدو نملك المال لا أكثر، بينما هو اللص من يمتلك كل الثقافة وحرية الفكر وتقدير المرأة وتبجيلها، ويشكر الله أنه لم يكن بدوياً يوماً ما، لكنه يعمل تحت مؤسسة بدوية يأتون به ليعلمهم فن الإتيكيت.

كم مرة سمعت عددا من الإعلاميين العرب وأعينهم تسقط من الدمع ضحكا على مجلس الأمة الكويتي، ويشير أحدهم إلى أنه قد رأى مرة جملاً يدخل المجلس! أليسوا أسوأ من زيدان هؤلاء الذين يبطنون حقيقتهم البشعة، ويتفوهون بكلام لا يمكن غفرانه، والفارق بينهم وبين زيدان أنه يتكلم عن كل الشعوب بسخرية أمام الملأ، بينما مذيعو نشرات الأخبار يتحدثون وهم يخفون وجوههم.