لبيت المقدس منزلته العالية عند المسلمين -لا سيما أهل السنة-، فهو المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، ويعتقد مليار مسلم أن إليه كان مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنه كان معراجه إلى السماء، وقد كان هو القبلة الأولى التي استقبلها النبي الكريم وأصحابه، وبقوا على ذلك ستة عشر شهرا، حتى نزل الأمر الإلهي في شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة النبوية، فأُمر فيها النبي الكريم أن يستقبل قبلة يرضاها، هي الكعبة المشرفة حرسها الله، وحرس القائمين على خدمتها وخدمة حجيجها ومعتمريها.
وعلى يد صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وعلى يد أمير المؤمنين الفاروق والجِلّة من أكابر الصحابة فُتِح بيت المقدس ودخل في حوزة المسلمين، ليكون المسجد الثالث المقدس في دين المسلمين وتاريخهم، وهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تُشدُّ الرحال إلا إليها.
وفي رحاب مدينة القدس المشرّفة بنى الأمويون مسجد قبة الصخرة، بناء أنفقوا فيه الأموال الطائلة، واستخدموا أفضل البنّائين، فقد شرع في بنائه عبدالملك بن مروان عام 66 حتى تم بناؤه عام 72، وقد أثار تعجبي ما ذكره ابن تيمية، رحمه الله، عن قصة بناء القبة على الصخرة، إذ قال: "ولكن لما تولى ابنه عبدالملك الشام ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير فأراد عبدالملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى القبة على الصخرة وكساها في الشتاء والصيف ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس، ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير" [مجموع الفتاوى (ج 27/ ص 12)].
ثم في عام 492، إبّان الخلافة الفاطمية، وكان حاكمها من جهة الفاطميين هو افتخار الدولة؛ أتى الصليبيون أو الفرنجة في الحملة الصليبية الأولى، واحتلوا بيت المقدس، وأعملوا في أهلها السيف والقتل، وأسالوا الدماء، وانتهكوا الحرمات في وحشية سجلها التاريخ. وهكذا سقطت القبلة الأولى في أيدي الصليبيين، وبقيت في أيديهم، حتى ظهر ملك من ملوك المسلمين ومجاهد كبير هو نور الدين زنكي، رحمه الله، ثم يليه الملك المجاهد الكبير صلاح الدين، رحمه الله، الذي كان جنديا من جنود نور الدين زنكي ومن المقربين إليه.
كان نور الدين ملكا من الملوك، همه إقامة دولة، وتوسعتها، والاستقرار فيها، وكذا كان صلاح الدين من بعده ملكا من ملوك المسلمين، همه تأسيس دولة وتوسعتها والاستقرار فيها، وكان الخليفة العباسي في ذلك الوقت هو الخليفة الناصر وكان شيعيا إماميا كما يقول المؤرخون المسلمون.
وبعد وفاة نور الدين زنكي، ثم استيلاء صلاح الدين على الملك، وقيامه بعد هذا بالتوسّع الملوكي -على ما كان هو السائد في ذلك الوقت- مع الاستمرار في قتال الصليبيين؛ قام بتحرير بيت المقدس وفتحه، وطرد الصليبيين منه، وهكذا عادت القدس إلى أحضان المسلمين، وإلى حوزة المسلمين، وكان يوما عظيما مشهودا، وكان هذا عام 583. ثم توفّي صلاح الدين بعد هذا الفتح بست سنين، أي عام 589، وكان قد وزّع مملكته على ذويه وأولاده، ولا نطيل بذكر أسمائهم، فأخطأ بهذا خطأ فادحا؛ إذ احترب ذوو صلاح الدين فيما بينهم، كل يريد أن يتوسّع على حساب الآخر، كما احتربوا مع سلاطين الدولة الزنكية الأتابكية، وكانوا في الموصل وسنجار والجزيرة في العراق، فدبّ الضعف في أوصال المملكة الناشئة، حتى حمل هذا الاقتتال بعضهم إلى الاستعانة بالصليبيين الذين قضى صلاح الدين حياته يجاهدهم!
ولم يزل الأيوبيون يقتتلون ويتصارعون على المُلك حتى أقبل الصليبيون وحاصروا دمياط (ثغرا من ثغور مصر) سنة 615، ولما اشتد الحصار قام الأيوبيون بتخريب بيت المقدس وهدم حصونها، خوفا من أن يصلها الصليبيون وهي عامرة ملأى بأنواع الأسلحة، ومحصنة تحصينا يحميهم بها إذا اقتحموها.
ثم استولى الصليبيون على دمياط، فعرض الأيوبيون عليهم أن يأخذوا بيت المقدس! وكل ما حرره صلاح الدين في مقابل أن ينسحبوا من دمياط، ولكن الصليبيين أبوا ذلك؛ فجرت مقتلة عظيمة، وانتصر المسلمون على الصليبيين انتصارا مدويا سنة 618.
كان على مصر الملك الكامل محمد بن الملك العادل أحمد بن أيوب (والملك العادل هو أخو صلاح الدين)، وكان للملك الكامل أخ يلقّب بالملك المعظّم حصلت بينهما وحشة ومنافرة، بسبب طمع الملك المعظّم هذا في التوسع، حتى بدأ يهاجم ما يملكه أخوه الملك الأشرف. فاستنصر الملك الكامل بالصليبيين ليقفوا معه ضد أخيه الملك المعظّم، في مقابل أن يعطيهم بيت المقدس، شريطة أن يتركوا المقدسات الإسلامية تحت أيدي المسلمين، وعلى الرغم من موت المعظّم واستراحة أخيه الملك الكامل منه؛ فإنه سلّمها إلى الصليبيين من دون قطرة دم واحدة، وبقيت القدس تحت سلطانهم منذ عام 626. ولكن الصليبيين لم يتقيدوا بشروط التسليم، فأخذوا يبنون المباني ويحصنون المدينة، وهنا قام لهم الملك الناصر داود وهو ابن الملك المعظّم الذي ذكرناه آنفا، فاستنقذها منهم؛ لتتحرر القدس من أيدي الصليبيين مرة ثانية، وكان هذا عام 637، ولكن بيت المقدس بعد هذا عاد إلى الصليبيين للسبب ذاته الذي عاد به إليهم أول مرة؛ سلعة للمساومة، ينفقها بعض المسلمين لينتصروا بالصليبيين على إخوتهم! فسلّمها إليهم هذه المرة الملك عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل (أي أنه عمّ نجم الدين أيوب)، وفعل كما فعل أخوه الكامل من قبل! ودخل الفرنج بيت المقدس وألغوا الأذان فيه كما يقول المؤرخ المعاصر لهذه الحادثة ابن واصل الحموي، كان هذا عام 641.
فكاتب نجم الدين أيوب طائفة من الجنود المرتزقة تدعى (الخوارزمية) لهم قصة لا مجال هنا لذكرها، كانوا قوما أشرارا، نهابين، سلابين، أهل فساد وبطش، وبلا أخلاق، فقاتل بهم الفرنجة، وأخرجهم من القدس سنة 642، فلم تطأها قدم أجنبي، حتى العهد الحديث.
بعد هذا أسألك أخي القارئ: من حرّر القدس حقا؟