يمكننا تصور ثلاثة آفاق تصف جزءا كبيرا من طبيعة هذه العلاقة التواصلية التي نسميها عادة بالحوار. الحوار هنا معنى واسع يشمل أنماطا مختلفة من التواصل بين الناس، يجمعها بقاء أطراف العلاقة التواصلية جميعا على مستوى معين من الحيوية والحريّة في العلاقة. لذا فالحوار هنا قطيعة مع الإملاء أو الفرض أو أي شكل من أشكال الفعالية من طرف واحد في العلاقة. الآفاق التي أريد الحديث عنها هنا هي كالتالي: الحوار بالمعنى الإستراتيجي، الحوار بالمعنى المعرفي، والحوار بالمعنى الأخلاقي. على المستوى الأول يحضر الحوار باعتباره إستراتيجية، أي آلية لتحقيق هدف معين. الحوار السقراطي في عدد من المحاورات التي أرخ لها أفلاطون مثال جيد على هذا النوع. في هذه الحوارات يسعى سقراط لقيادة محاوره إلى نتيجة معينة. رهان سقراط هنا أن يشعر الطرف الآخر في الحوار أنه قد توصل إلى النتيجة بنفسه ولم تكن مفروضة عليه. سقراط هنا يلعب دور البراءة من مسؤولية النتائج، باعتبار أن دوره لم يتجاوز طرح عدد من الأسئلة. لكن التحليل الدقيق للمحاورات يكشف دورا أكبر لسقراط في تغذية وتوجيه الحوار بمعلومات مهمة جدا. الشاهد هنا أن هذا النمط من الحوار يعبر عن آلية معينة يلجأ إليها المحاور للوصول إلى نتيجة محددة سلفا. في محاورة "مينو" كان هدف سقراط إثبات أن الفتى الخادم يعرف الرياضيات وهو لم يتعلمها. كل حوار سقراط مع الفتى كان لهذا الهدف. حضور الفتى في هذه العلاقة كان مقصورا على تحقيق هذه الغاية. الطرف المقابل في هذا الحوار لا يحضر كآخر. غيريته وآخريته لا يرحب بهما في هذا الحوار. الجانب المرحب به في هذا الحوار هو توافقه مع الهدف المحدد سلفا للمحاورة.

الأفق الثاني من الحوار هو الأفق المعرفي أو الإيبستمولوجي. هذا النمط من الحوار مشغول بـ"فهم" و"معرفة" الآخر. هنا تواصل على المستوى الذهني. الآخر هنا يتم تمريره عبر قنوات المعرفة للحصول على "معرفة" عنه. الذات المحاورة في هذا المستوى تسعى إلى تشكيل معنى للآخر. المعنى هذا بالضرورة معنى الذات، لأن كل معنى آخر لا يتحول إلى معرفة ذاتية إلا بتحوله لمعنى ذاتي. هذه العملية يسميها لافيناز عملية رد الآخر للذات، أي تحويل الآخر لمعنى ذاتي. الآخر خارج هذا الإطار لا يحضر.

على سبيل المثال، هذا التواصل ينقطع مع الآخر حين يتعذر فهم هذا الآخر. هنا تحضر مشكلة التواصل مع الآخر الذي لا يستطيع إفهامنا ذاته لأي سبب من الأسباب. الفهم بطبيعته نسقي ويتطلب التماثل. أقصد أن فهمي لك مشروط بتوافقك مع آلياتي الذهنية للفهم. هذا المستوى من التوافق والتشابه مطلوب للفهم ويحيلنا لسؤال الاختلاف. السؤال كالتالي: إلى أي مدى يكون الاختلاف ممكنا في علاقة هدفها الفهم؟ بحسب لافيناز فإن هذا المستوى من الحوار مشغول بمضمون الحوار، أكثر من انشغاله بحقيقة العلاقة مع الآخر في الحوار. أي أن المحاور في هذا المستوى مشغول بما يقوله الآخر أكثر من حقيقة أن هذا الآخر موجود معه. الشاهد على هذا هو توقف التواصل مع توقف الفهم. توقف التواصل يهدد وجود الآخر وينذر باختفائه والانتقال من حالة الوجود مع الآخر إلى حالة الوجود المنفرد. في التعليم هذا المستوى من الحوار قد لا يكون مضيافا للطالبات والطلاب الأقل قدرة على التعبير عن أنفسهم والدخول في تواصل فعال مع الآخرين.

الأفق الثالث من الحوار يمكننا تسميته بالأفق الأخلاقي للحوار. في هذا الأفق لا يهدف التواصل مع الآخر للوصول إلى نتيجة معينة أو حتى لفهم الآخر، بل للوجود معه واستضافته. الموقف الأقرب لهذا الأفق في نظري هو موقف الإنسان المضياف الذي يترقب ضيفا لا يعرفه ولا يشترط معرفته. هذا الانتظار للعناية بالغريب يعبر كثيرا عن المستوى الأخلاقي للحوار. العلاقة مع الآخر هنا تسعى إلى الاحتفاء بغيرية الآخر وآخريته. الضيافة يزداد إلحاحها بزيادة غرابة الضيف واختلافه. هنا ربما نتجاوز علاقة الأم بطفلها، باعتبار أن هذه العلاقة موجهة لمن هو جزء منها وليس غريبا عليها. لدي شعور أن هذا الوصف مستعجل ويحتاج إلى مراجعة في المستقبل، لكن الشاهد أن العلاقة الأخلاقية معنية بالآخر في مساحة بعيدة عن رده للذات. الأفق الأخلاقي استعادة لواقعة التجاور مع الآخر والعيش معه وأن هذه الواقعة سابقة للتعبيرات التي يمكن أن تحضر في هذه العلاقة. وجود الآخر هو أساس اللغة، ولذا فإن مضمون هذه اللغة أو "ما يقال" بتعبير لافيناز يجب ألا يخفي عنا أن وجود الآخر، ومسؤوليتي عن هذا الوجود هو شرط وجود القول من أساسه. كما في الضيافة فإن هذه العلاقة ليست فقط تعبيرا عن الشعور بوجود الآخر، بل إحساس بالمسؤولية عن هذا الوجود كذلك. أنا لا أعيش مع الآخر فقط، بل أنا مسؤول عنه. لا أظن هذا المعنى غريبا علينا، خصوصا إذا تأملنا موقفنا من المشاهد المأساوية التي تحصل لبشر لا نعرفهم أو لمشهد متسول يمر من أمامنا ليوقظ فينا شعورنا بالمسؤولية عنه رغم أننا لا نعرفه.

الأفق الإستراتيجي للحوار يسعى إلى قيادة الآخر، بينما يسعى الأفق المعرفي الإيبستمولوجي إلى معرفته وفهمه. في المقابل يسعى الأفق الأخلاقي إلى رعاية الآخر والعناية به. هذه الآفاق لا تتعارض بالضرورة، لكن التمييز بينها مهم لفهم موقفها من الاختلاف والغيرية. لا ننسى هنا التذكير أن العنف ليس إلا رفضا للاختلاف والغيرية والتنوع.