تحاول وزارة المالية بشتى الوسائل أن تتفادى أسباب الإسراف في النفقات والمصاريف في الجهات الحكومية، والحد قدر الإمكان من الأخطاء المحاسبية والتقليل من مخاطر الاختلاس والتزوير، وذلك عن طريق إصدار أنظمة وقوانين ولوائح مالية مثل التعليمات المالية للميزانية والحسابات، وتعليمات إقفال الحسابات وإعداد الحساب الختامي، ونظام المنافسات والمشتريات الحكومية ونظام إيرادات الدولة... إلخ، بالإضافة إلى الدور الرقابي الذي تمارسه الوزارة في مجال الرقابة المسبقة عن طريق المراقبين الماليين.

وبالرغم من كثرة الأنظمة واللوائح والتعليمات، وكذلك تعدد الجهات الرقابية مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق والهيئة الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، إلا أن مخاطر الفساد والإسراف وهدر المال العام في الجهات الحكومية ما زالت عالية نسبيا إن لم تكن في ازدياد طردي، والسبب في رأيي يتمثل في ضعف تطبيق الأنظمة والتعليمات المالية وضعف الرقابة الداخلية عليها.

فالجهات الحكومية لديها هياكل إدارية معتمدة رسمياً، وفي كل سنة مالية يصدر الوزير المختص أو المسؤول الأول في الجهة قائمة طويلة بالصلاحيات الإدارية والمالية المفوضة إلى الوكلاء والنواب أو مديري العموم، بالإضافة إلى وجود الأنظمة والتعليمات المالية سالفة الذكر، ناهيك عن الرقابة المسبقة التي تمارسها وزارة المالية وكذلك وحدات المراجعة الداخلية المرتبطة بالوزير، إلى الرقابة اللاحقة التي يمارسها ديوان المراقبة العامة، ومع ذلك نجد مظاهر الهدر والإسراف والفساد في بعض الجهات الحكومية.. والسؤال المطروح هنا: أين الخلل؟ فهل هذه الأنظمة والتعليمات والإجراءات والهياكل الإدارية وتفويض الصلاحيات والجهات الرقابية مجرّد شكليات؟.

تحدثت في مقالات عديدة عن الإشكالات التي تواجهها الجهات الحكومية عند تطبيق الأنظمة واللوائح المالية، وكذلك تحدثت عن الإشكالات التي تواجهها الجهات الرقابية، واليوم سوف أتحدث عن مشاكل الإجراءات المالية نفسها، وكيفية تطبيقها في واقع العمل الحكومي.

لنأخذ على سبيل المثال تعليمات تنفيذ ميزانية الدولة للسنة المالية 1436/ 1437 والتي تتضمن التعليمات الخاصة بالصرف على أبواب الميزانية (الرواتب والأجور، المصروفات الإدارية، الصيانة والنظافة، المشاريع)، فقد ورد البند (2) ما نصه: "تخفيض الالتزامات على بنود الباب الثاني مثل المكافآت والمصاريف السفرية وما شابهها، وذلك بتقليص عدد ومدد الانتدابات والاستعانة بموظفي الفروع بهدف تحقيق توفير في هذه النفقات..".

وعلى هذا الأساس، تكون مسوغات المصاريف السفرية في الجهات الحكومية كالتالي:

أصل قرار الانتداب ممن يملك الصلاحية، تقرير يعده الموظف المنتدب على نموذج معد لهذا الغرض، الارتباط المالي.

وبالنسبة للنقل الشخصي وهو عبارة عن أجور إركاب الموظفين براً وبحراً وجواً، فتكون مسوغات الصرف (أصل التعميد الصادر من الخطوط السعودية، أصل المطالبات والفواتير المقدمة للصرف، وصورة القرار المؤيد لنظامية الإركاب في حالة الانتداب) بالإضافة إلى ضرورة التحقق من درجة الإركاب بالطائرات حسب المرتبة الوظيفية للموظف الحكومي. وبناء على ذلك تقوم الجهات الحكومية باتباع تلك التعليمات على أكمل وجه، ويتم التحقق من جميع مسوغات الصرف من قبل المراقب المالي، وليس هذا وحسب، بل إن بعض الجهات الحكومية تقوم بتصميم دليل تنظيمي للإدارة المالية على هذا الأساس، ولكن ما يحدث على أرض الواقع مختلف تماماً، فربما هناك انتدابات وهمية أو ما تسمى في العرف البيروقراطي (انتدابات تنفيعية)، وبالنسبة للنقل الشخصي فحدث ولا حرج!.

فكما هو معلوم عن أسعار التذاكر الحكومية فهي تفوق أسعار السوق بنسبة تزيد على 100%، وبالرغم من أن اللوائح والتعليمات المالية تسمح بصرف قيمة التذاكر نقدا بالنسبة للانتدابات الداخلية (داخل المملكة) بحيث تصرف قيمتها من الدرجة السياحية مهما كانت مرتبة الموظف، إلا أنه قد نجد في بعض الجهات الحكومية صرف قيمة هذه التذاكر نقدا حتى بالنسبة للانتدابات الخارجية (خارج المملكة).

كما نجد أيضا قيام بعض الجهات الحكومية بالتعاقد مع شركات السفر والسياحة الخاصة من أجل إصدار تذاكر حكومية، لذا ليس من المستغرب أن نجد في الحساب البنكي لبعض الموظفين مئات الألوف من الريالات تم توفيرها من قيمة التذاكر والمصاريف السفرية غير النظامية.. وهنا نتساءل: كيف تستطيع وزارة المالية الحد من مثل هذه الممارسات؟

لنأخذ مثالاً آخر على التعليمات المالية وليكن البند (السادس) فيما يتعلق بالعهد والسلف، والذي ينص على أنه "يمكن في حالة الحاجة صرف سلفة مستديمة بمقابلة النفقات العاجلة التي لا تحتمل التأخير بفروع الوزارات والأجهزة الحكومية بحيث لا يتجاوز مقدار السلفة ثلاثمئة ألف ريال، ويتم التعويض عنها كلما قاربت على الانتهاء ويجب تسديد السلفة عند انتهاء السنة المالية"، ومعنى سداد السلفة هو تقديم مستندات الصرف مثل الفواتير، ولا أبالغ إن قلت إن هذه النوعية من السلف تعتبر إحدى الثغرات الخطيرة في النظام المالي الحكومي رغم أنها تمثل مرونة للصرف، ولكن هذه المرونة تحولت إلى الصرف على المصالح الشخصية للمسؤول الإداري في بعض الجهات الحكومية.

فلا توجد ضوابط واضحة تحدد الاحتياجات العاجلة أو الحرجة للجهات الحكومية، وإنما يتطلب الأمر تقديم مسوغات صرف فقط مثل سفريات الرئيس الإداري أو تقديم فواتير الشراء.

للأسف الشديد ضوابط الرقابة الداخلية غير مفعلة على الإجراءات المالية والمحاسبية في معظم الجهات الحكومية، لذا لا نستغرب أن يقوم موظف واحد بجميع العمليات المحاسبية في الإدارة المالية من أولها إلى آخرها، ولا نستغرب عدم وجود مراجعة لتلك العمليات، ولا نستغرب القرارات المالية الشفهية، ولا نستغرب تداخل الصلاحيات وتضارب المصالح، وكل هذا يحدث دون مساءلة عامة.. فما فائدة الأنظمة والتعليمات المالية والمحاسبية التي تصدرها وزارة المالية كل عام؟