لا أكاد أصدق أن "البوركيني" أو لباس البحر الإسلامي يتصدر نشرات الأخبار، بل يأتي الخبر والعنوان أولاً، وبنقاش طويل على مختلف قنوات التلفزة الأوروبية. وحتى اللحظة تبارت أكثر من عشرين بلدة فرنسية في فرض قرار منع السباحة للنساء بهذا اللبس الذي يبدو محتشما، بحسب الذائقة الفرنسية. الأغرب من هذا أن وزيرين فرنسيين قطعا إجازتهما السنوية وعادا إلى باريس من أجل المساهمة في التهدئة المجتمعية وتبرير القرار. أكثر من هذا، وفي خبر طارئ، أصدر الإليزيه ومجلس الوزراء بيانين إلى المجتمع الفرنسي لشرح أهداف القرار. إنها معركة "البيكيني" في مقابل "البوركيني"، وهذه التقابلية المتناقضة في شكل المعركة الفكرية تشرح طبيعة السجال والأزمة، لا في المجتمع الفرنسي وحده، بل في المجتمع الغربي برمته. هي أزمة مع قيم المهاجرين إليها من البلدان الإسلامية. أرادت فرنسا وأوروبا من حولها أن تدخل هؤلاء المهاجرين إلى نسقها الثقافي بحسب فرضية المضيف المستقبل، لكن الضيف رفع في وجه المضيف شعاراته الدائمة عن علمانية الدولة والمجتمع وحرية الفرد المواطن فيما يقول ويكتب، وفيما يأكل وماذا يلبس. وبغباء مكتمل قفزت فرنسا إلى الحد الثاني من سيف العلمانية والحرية لتقول إن لباس البحر الإسلامي يتعارض مع قيم العلمانية والحرية الشخصية. أرادت أن تفرض عليهم لبس "البيكيني" فاخترع هؤلاء المهاجرون صرخة "البوركيني". فتحت فرنسا لهم أبواب آلاف المساجد من باب علمانية الدولة التي تضمن حق الفرد في اعتقاد ما يشاء، لكنها وللتناقض، وبذات سيف العلمانية، تسمح للمرأة الفرنسية المسلمة بدخول المسجد بالحجاب ثم تفرض عليها "البيكيني" حين تخرج إلى البحر. ومن المضحك بمكان أن القانون الجديد لا يشمل لباس الرجال في كلمة واحدة أو فقرة. أستطيع مثلا أن أسبح في شاطئ "كان" بثوبي الخليجي وعاصبا رأسي بالشماغ. لباس المرأة وحدها حجابا أو نقابا أو حتى عند السباحة، هو ما يتعارض مع قيم العلمانية. ولن يقف هؤلاء عند هذا الحد، وغدا سيفرضون القوانين فيما نأكل ونشرب. خذ مثلاً ما يقوله النائب اليميني، إيف لاقروا، من أن معظم سكان ضواحي المدن الفرنسية الكبرى "حيث الغالبية المسلمة" لا يأكلون الخنزير ولا يشربون النبيذ الفرنسي، وفي هذا كساد لنشاط اقتصادي. أخشى غداً أن تتعارض الخمور والخنزير مع علمانية الدولة. هو نفسه النائب الذي تحدث من قبل عن همجية المسلمين في ذبح المواشي، داعيا إلى فرض الذبح بالرصاصة، وكأن البقرة أو الشاة ستكون أكثر سعادة بخيار الموت الثاني في مقترحه.
لماذا يحدث كل هذا في فرنسا؟ اسألوا عن التوقيت. كل هذا يحدث في صيف عام ملتهب لا بحرارة الطقس، بل بضربات الإرهاب الأسود، وهنا دخلت فرنسا إلى دائرة التعميم دون أن تلتفت بالمثال إلى أن وزيرة التربية المسؤولة عن تعليم ملايين الفرنسيين مسلمة مغاربية. فشلت فرنسا في توفير مناخ عادل للاندماج والتعايش والعدالة المجتمعية في تكافؤ الفرص ما بين الوافد والأصيل، فذهبت إلى القشور في الملبس وغدا فيما يأكل ويشرب. خذ أخيرا للنكتة: أكثر من ثلاثة ملايين فرنسي أصيل أبيض لا يحلقون اللحية، فهل سيصبح إطلاق اللحية تعارضا مع قيم العلمانية في الصيف القادم؟