بدأت تباشير شهر الحج، وبدأ توافد ضيوف الرحمن، تقبل الله منهم، وأعان الكل على خدمتهم، على الوجه الذي يحبه الله تعالى، ويؤكد عليه ولي أمرنا، أيده الله.. دائما ما يلحظ الجميع، أنه مع مواسم الخيرـ والحج أبرزها ـ تنتشر الفتاوى، والأحكام الفقهية، بطريقة لا تريح من له بعض اطلاع بطريقة العلماء الحقيقيين، رحم الله من تقدم منهم، وحفظ من بقي، ومؤكد أن حال الناس اليوم سبب من الأسباب، إذ بات البعض يسأل استسهالا، وبعضهم ترددا، وبعضهم للذهنية الدينية التي تكبله، وبعضهم لغير ذلك..
يصف لنا ذلك الزمن الماضي الجميل، سيدنا مالك بن أنس، ـ رحمه الله ـ فيقول فيما نقله الإمام أبو شامة المقدسي في كتابه الممتع (المؤمل في الرد إلى الأمر الأول)، عن حال السائل والمسؤول: "لم يكن الناس فيما مضى يسألون عن هذه الأمور كما يسأل النَّاس اليوم، ولم يكن العلماء يقولون: حرام ولا حلال، أدركتهم يقولون: مكروه ومستحب"؛ وللإمام نفسه توصيف آخر جميل، نقله الإمام ابن عبدالبر، في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) يقول فيه: "لم يكن الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدري أحدًا اقتدى به، يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا، ونرى هذا أحسن، ونتقي هذا، ولا نرى هذا، ولا يقولون حلال وحرام؛ أما سمعت قول الله عز وجل: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حلالًا وحرامًا، قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}، والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله"..
اليوم لم نعد نسمع كثيرا: "مكروه"، أو "مستحب"، أو "نكره هذا"، أو "نرى هذا أحسن"، أو "نتقي هذا"، أو "لا نرى هذا"، وصار جل ما نسمعه هو الكثير من "حرام"، والقليل من "حلال"؛ ومن يقول ذلك يحسب نفسه فقيها، وغاب عنه أن الفقه عرّفه الفقهاء بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، وأنه "معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد"، وأنه "علم كل حكم شرعي بالاجتهاد"، وأنه "العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال"؛ وغابت عنه تحذيرات أصحاب البصيرة من السابقين، وعلى رأسهم الصحابة الأجلاء ـ رضي الله عنهم ـ ، ومنهم سيدنا عبدالله بن مسعود، الذي نُقل عنه قوله: "إن من يفتي في كل ما يستفتونه لمجنون"؛ ولا أشك في أن العاقل هو من يطبق قول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : "لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم".