كان لافتا للنظر، وإن لم يكن مفاجئاً، في المحاكمة غير المسبوقة في موضوع جريمتها، وهي جريمة تدمير التراث الثقافي أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي التي ابتدأت أولى جلساتها يوم الإثنين الماضي 22/ 8/ 2016، كان لافتاً توارد عدد من الصحف والوكالات والقنوات الإخبارية الغربية على ذكر المملكة العربية السعودية ضمن مادتها الإخبارية والتحليلية عن الجريمة موضوع المحاكمة.
وذلك على الرغم من أن المتهم في هذه الجريمة متشدد مالي، يدعى أحمد الفقي المهدي، ومكان جريمته في تمبكتو بمالي، حيث قاد هجمات على تسعة أضرحة ومسجد، بعد انضمامه إلى جماعة أنصار الدين المتطرفة المرتبطة بتنظيم القاعدة، أثناء سيطرتها على شمال مالي في عام 2012، وتولَّى فيها منصب رئاسة الحسبة.
لكن ذكْر السعودية جاء في تلك المواقع ضمن التعريف بالمتهم والجماعة المتطرفة والجريمة. وهو ليس ذكراً عابراً، بل موظَّف للتدليل على منابع فكر المتهم وجماعته المتطرفة بشأن العدوان على أبنية الأضرحة والمزارات وهدمها.
وقد تفاوت التطرق إلى السعودية في هذا الصدد، بين ذكر إقامة أحمد المهدي فيها بعض الوقت، كما في صحيفة ديلي ميل وغيرها، نقلاً عن وكالة الصحافة الفرنسية، وبين وصف دراسته للشريعة الإسلامية، في صحيفة نيويورك تايمز، بأنها كانت برعاية سعودية. وخصت قناة فرنسا 24 قائد جماعة أنصار الدين، إياد غالي، بالعلاقة بالسعودية، حين ذكرت عمله دبلوماسياً لمالي في الرياض، وعودته محملاً بصيغة صارمة ومتشددة من الإسلام، إضافة إلى حديثها عن هدم الأضرحة في المملكة... إلخ.
ولا يمكن لأحد أن ينكر الموقف الفقهي والعقدي الذي تأخذ به المؤسسة الدينية الرسمية في المملكة، ممثلة في هيئة كبار العلماء، تجاه تحريم بناء الأضرحة ووضع المقامات والقباب على القبور.
لكنه بشأن الأضرحة والمزارات تحديداً، ليس وقفاً على هيئة العلماء السعودية، ففتاوى العديد من كبار العلماء في مصر تأخذ موقف التحريم. وهناك كتاب عن "فتاوى كبار علماء الأزهر الشريف حول الأضرحة والقبور والموالد والنذور" (صدر عام 2007) يعرض هذا الموقف الذي يذهب إلى التحريم، ويخف لدى بعضهم قليلاً إلى الكراهة. وهو الموقف الذي يمكن تتبعه متراوحاً بين التحريم والكراهة عند عديد من علماء السنة المحدثين في أنحاء العالم الإسلامي.
وليس لأحد أن يخص به بعض علماء السنة المحدثين، فهو موقف مشهور لدى ابن تيمية، وابن القيم، والنووي، والشوكاني... وغيرهم استناداً إلى أحاديث مختلفة، وإلى الخوف من الفتنة بالقبر والشرك والوثنية.
كما ليس لأحد –أيضاً- أن يحصر فيه الموقف السني كله، فضلاً عن موقف المذاهب والطوائف الإسلامية المختلفة. فهناك آراء فقهية سنية أيضاً تستدل –مثلاً- بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه رضي الله عنهما، في مسجده الشريف، وقبر إسماعيل عليه السلام في حجر إسماعيل في المسجد الحرام، وقبر ابن عباس رضي الله عنه في مسجده في الطائف. وتفسِّر أدلة النهي عن البناء على القبور بما يجعله نهياً مخصّصاً لمادة البناء أو كيفيته أو مكانه وما إلى ذلك. وآراء ابن مفلح، وابن حزم، وابن حجر، وابن رشد، والعز بن عبدالسلام... وغيرهم من مختلف المذاهب السنية تأخذ جانب السعة هذا.
هكذا لا يلزم تخصيص السعودية بشيء في تحريم بناء الأضرحة أو كراهته، ما دام هذا الموقف يتعداها إلى غيرها ويسبقها. لكن الجريمة المقترفة في مالي وهي موضوع المحاكمة، ليست بسبب التحريم لأبنية الأضرحة، وإنما بسبب تجاوز التحريم لها إلى فرضه بالقوة، والقيام بهدم مقامات الأضرحة وقبابها وتدميرها فعلياً.
تتضافر الأدلة على إعلان هيئة كبار العلماء شجبها للجماعات الإرهابية، وإصدارها بيانات لاستنكار العديد من جرائمها ضد المسلمين من أبناء الطوائف الأخرى، كما في تفجير داعش في مساجد الشيعة في المملكة، وضد غير المسلمين، كما حدث في هجمات باريس ونيس وغيرها. والموقف المعتمد لديها في كل خلاف أن رأي الحاكم يرفع الخلاف. وهذه قاعدة أتاحت انخراط المملكة في العديد من الاتفاقات والمعاهدات الحقوقية الدولية، وحفزتها على الانفتاح على العالم بما يعزز الأمن والحوار والاحترام المتبادل.
لكن هذه الإجابة ليست كافية، فلا تزال الحاجة ماسة إلى أن يعلو صوت هيئة كبار العلماء بالإنكار على من يغتصبون لأنفسهم من الإرهابيين حق تنفيذ ما يعتقدونه من الأحكام على أصحاب المذاهب والطوائف الأخرى بالقوة. وهذه مسؤولية دينية ووطنية وإنسانية يجدر بعلمائنا الاضطلاع بها.
وأعتقد أننا أكثر إحساسا بافتقاد صوت علمائنا حين نسمع تردد أصوات الاستنكار من غيرهم. فجريمة مالي موضوع المحاكمة كانت في حينها وِجْهة إدانة شديدة -مثلاً- من منظمة التعاون الإسلامي في جدة، ومن جهات دينية في الجزائر والمغرب. كما كانت إدانة مفتي مصر لتفجيرات الأضرحة في ليبيا، وكانت إدانة علماء الأزهر لتفجير قبر النبي يونس عليه السلام، وأضرحة الأولياء والكنائس في العراق من قبل داعش.
وقد تبدو الحاجة ماسة في المملكة إلى استيعاب التعدد والحوار الديني في هيئة رسمية أدل على قوة الموقف الوطني، وأكثر إثراء للحقيقة، وثَلْما لحد الأحقاد الخارجية. فما زالت القولبة والتنميط والتصنيف أيسر طرق الشيطنة والعزل المألوفة في الإعلام، وما زلنا دون مستوى القدرة على مواجهتها وخرقها وتحديها.
ولا يغيب عن البال أن الالتفات إلى ما ينتج عن مناشط السياحة وما يدخل في نطاقها من العناية بالمواقع التاريخية والأثرية، ممارسة إعلامية وثقافية عميقة الأثر؛ سواء من جهة ما ينعكس بسببها داخليا من وعي وانفتاح وغنى ثقافي، أم من جهة ما تتيحه للعالم من معرفة أعمق بنا، تتجاوز القوالب الجاهزة المكرَّسة عنا. ولئن كانت مناشط السياحة الثقافية بما تقتضيه من متاحف وصيانة للآثار إحدى المهام البارزة في "رؤية المملكة 2030" فلنعترف بأن ما اعتراها من قصور في ما مضى كان أحد الأخطاء التي أضرت بنا كثيرا.