مرّ عيدُ الأضحى من هنا ومرّ عام على "جدة" وأحداث مطر غاضب..
مرّ عام على مرور الموت من هنا مع تلك السيول وجرف ما يقارب 130 ضحية من أرواح أهلها ممن رحلوا مع كل ذلك المطر ليبقى صدى بكاء النساء.. استغاثة المسنين.. صرخات الصغار المُمسكين بأطراف ثياب أمهاتهم كقشة يتمنون أن تنتشلهم من فوج الماء المكدر بالطين في أعينهم..
رحلوا وبقي صوتهم في آذان ضمائر الفساد من الذين اختطفوا جدة من أمانتهم وجعلوها مدينة ورقية.. رحلوا وبقي كل ذلك الصراخ في آذان جدة وشوارعها وأزقة شرقها وفي آذاننا نحنُ أيضا..
مرّ عام على مأساة تلك السيول التي أفقدت ما يزيد عن الألف بمئات منازلهم وسياراتهم وابتلعت ممتلكاتهم لأن الأرض العذراء أبت ابتلاع مياهها وبقيت لليوم منازلهم دليلا فاضحا لكل الذين مشوا على الصراط بالمقلوب وهم يبنون مشاريع جدة على الورق..
وتذكرتُ اليوم صوت "أمي" عبر اتصالي بها حين كنتُ خارجها، يأتيني كرغيف طازج يُطمئنني بأن جدة بخير حتى لا أقلق.. رغم أن الأخبار تقول إنها ليست بخير..
تذكرتُ عودتي بعد السيول بيوم واحد ووجدتني أقف على أرض مدينة خاوية على عروشها.. حزينة مع سكون وخوف من تلبد السماء بغمامها.. ولأول مرة يخاف أهل جدة من مطر السماء.. ولأول مرة تمنينا ألا تمطر السماء.. واليوم عيوننا معلقة إلى السماء نرجو المطر مع أمنية أن ترحمنا الأرض لأن مشاريع جدة على الورق.. لأن أرصفة شرق جدة ما تزال تبكي مطر العام الماضي، وإن كانت جدة حكاية أخرى جسدتها أسطورة أمنا حواء.. وسريعا جففت ثوبها ورفعته عن سيقانها واستمرت في المشي متكئة على أكتاف آلاف من شبابها وشاباتها المتطوعين الرائعين الذين سارعوا يجففون دموعها ورسخوا في أذهاننا صورة أخرى لمعنى التطوع ولمعنى الشباب.. لقد شاهدتهم حين تجولت العام الماضي في شوارع قويزة ومناطق أخرى منكوبة وأبصرت كيف أن هؤلاء مختلفون جدا وهم يحملون بحماس البطاطين والأغذية والمشروبات والأدوية غير عابئين بكل ذلك التعب ولا بتلبد السماء بغيمات منذرة بمطر آخر..
مرّ عام على الأربعاء الحزين في تلك المناطق المنكوبة وعلى وعود أمانة جدة في مسح كل ذلك الأنين المؤلم، وإصلاح ما اقتلعته السيول من أرصفة؛ لكنها ما تزال على حالها على إهمالها رغم مرور عام كما نقلت "عكاظ" منذ أسبوعين في جولتها المصورة.. وأتساءل ألم يكن هذا العام كفيلا بالإصلاح.. بالمحاسبة الذاتية.. بوضع الاحترازات لطمأنة تلك المناطق من مطر منتظر.. أم أن جدة ستبقى مدينة على الورق في كل عام وعليهم أن يغادروا بيوتهم مع كل عام!؟
مرّ عام من هنا على ذكرى الأربعاء الحزين وعلى فساد المفسدين الذي فضحه المطر.. مرّ عام مع هذا العيد ليذكرنا ببيان الملك "أبي متعب" الصادح لمحاسبة "كائنا من كان" وما نزال ننتظر من لجنة التحقيق هذا "الكائن" وربما "الكائنات" ليكونوا عبرة وصوتا لا يموت في ضمائر من ورق ليس لأجل جدة.. بل لأجل كل المدن في هذا الوطن.