يلحد بعض الشباب العربي في سن مبكرة نتيجة قراءات مرتبكة ومتعجلة، يساعدها في ذلك كمّ التناقض الذي يظهره بعض المحسوبين على الدين والدعوة، وبعض المنتمين إلى تيارات انتهازية بصبغة دينية، ولعجز البعض عن قراءة الموروث الديني وتقديمه في قالب يتوازى مع المتغيرات والعصر الحديث، وليبقى الشباب أكثر الأهداف الواضحة التي يمكن أن تقع في قبضات الإلحاد والتطرف الديني أو غيره.
والواضح، أننا أمام لوحة اجتماعية أسوأ وأعقد مما نظن. أتذكر جيدا حينما كنت يافعا كثيرا مما كان يحدث من أفعال ونفسيات ورغبات الأصدقاء، وكيف أننا كنا نحاول رسم شخصياتنا في سن مبكرة، من خلال الإصرار على الاختلاف قدر الإمكان عن بعضنا، إذ كان بعضنا يعلن إعجابه وذائقته الفنية من خلال إعلانه لعشق وردة الجزائرية وأغنياتها وصوتها، في حين يراهن آخر على سميرة سعيد، ويقطع آخر بفردانية عبدالحليم حافظ، حتى أن بعضنا لم يكن صادقا فيما يعلنه، لكننا على الرغم من ذلك، وعلى جانب آخر، كنا نفكر في توزيع النجوم في السماء، وكيف اتخذ الإنسان منها دليلا لعبقريته، ولو كنا نعيش مراهقتنا في هذا التوقيت، أجزم أن بعضنا كان سيختار الإلحاد ليتميز عن أقرانه، ولكي يحصل على لقب ما.
لم يكن ذلك أكثر من حماس الشباب، وارتباك سن المراهقة في اختيار الحقيقة، التي ترسم في الأصل ملامح شخصياتنا، وتهبنا مقدارا من الثقة على طريق الوعي والرجولة، وهي المرحلة التي تدرب على اصطيادها الانتهازيون حول العالم.
لم نقع يومها في فخاخ الإلحاد، لأنه وببساطة كان لدينا مفتٍ واحد ومنفذ واحد وطريقة واحدة وخيار واحد، فأصبح في حياتنا عشرات الألوف من المفتين. كنا أمام رأي واحد فأصبحنا أمام مئات الألوف من الآراء والمفتين، أمام مئات الملايين من الخيارات العلمية والمعلوماتية، قابلنا العصر المعلوماتي فجأة كطوفان، لم يرحم صغيرنا أو كبيرنا.
وكان من المستغرب أن يواجه بعض أهل العلم في الدين، هذه الموجات بالتحريم والمقاطعة، جاعلين من فرص التفاهم مع المجتمعات والمراهقين تحديدا أكثر تعقيدا من أي وقت مضى.
في قضايا التعامل مع الشباب الحائر، نقدم دائما ردة الفعل العنيفة، على كل الممكنات التي يفرضها عامل السن والمرحلة والزمن، لتنتفي هنا صفة الحكمة والرؤية الجيدة والرأي السديد.
حالات كثيرة لحيرة الشباب، قوبلت بردود أفعال متوترة، لا تظهر الفارق بينها وبين القرارات المراهقة، في الوقت الذي تقتضي فيه الحكمة، مراعاة ما يتعرض له العقل المرافق من ضغط عنيف نتيجة سيل المعلومات الرهيب، مشكلا صورة مشوشة، ضاغطة على عواطف الشخصية، دافعة العقل إلى نقطة اللاتوازن، وبالتالي الترنح والسقوط في أقرب فخ يتراضى فيه مع النزعة العاطفية.
نحن نمارس كثيرا من ردات الفعل المتوترة في حياتنا، لأننا مبتعدون عن الحضارة من خلال رفضنا توسيع العقل بالفلسفة، لذلك نحن بعيدون عن العالم وأبعد ما نكون عن واقع مجتمعنا على نحو ما، نحن بعيدون عن رؤية الأشياء وفلسفتها، ونعترف بجمودها أكثر من روحانيتها وأعماقها، الأشياء لدينا لا تمثل إلا زاوية واحدة، ما يجعلنا بعيدين عن الوعي بكيفية ردة الفعل دائما، فالعشوائية التي تظهر على تصرفاتنا إزاء المتغير، ليست أكثر من دليل على قصر النظر، وفقدانه إحدى زاويا الرؤية البالغة الأهمية.
يفكر العالم في تقديم ما لديه من طريقة تفكير ورؤية للتعامل مع الحياة ومتغيراتها، ونحن أيضا نفعل ذلك، ولكن بموازاة حجم والوعي الضعيف جدا في مجتمعاتنا وعالمنا.
وحين كنا نمنح العقل والفلسفة المساحة الكافية، قدمنا، فصل المقال، وحي ابن يقظان، وانكسار الضوء، وحلم الطيران، وغيرها، لكننا نجد أنفسنا الآن في مؤخرة القائمة.
في الوقت الذي يقدم فيه العالم المتمدن من حولنا قصص الخيال العلمية، وحرب الكواكب، والإنسان الخارق، وحقق حلم الطيران، ويفكر في تحقيق السفر عبر الزمن، وكيفية إطالة عمر الإنسان، وحلم الخلود عبر العلم، الذي تصادم معه الفكر الراديكالي على الدوام، نقدم نحن حاليا حلم الحوريات السبعين، وفرص وجماليات الموت على الحياة، والنهايات على البدايات، في الوقت الذي يقول الله تعالى في سورة هود "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، وقد غضب الله تعالى دوما على من كل يهلك الحرث والنسل، ومخالفة ذلك مدعاة للسخرية. ففي الوقت الذي يشغل العالم نفسه بالتفكير في المستقبل والإفادة من الحاضر، نشغل نحن حياتنا وعقولنا بالماضي وإسقاطه على الحاضر، بضمان المستقل الغيبي!
في الواقع شبابنا المرتبك يحتاج إلى كثير من الاحتضان والمحاورة، وقليل من التهديد والوعيد والتخويف.