نص إشباعي متشوف، للشاعر الدكتور محمد بن علي العمري، يستحضر مجاهيل غابرة ويقودها في حركية تاريخية مستعادة؛ ليهز الذاكرة ويلملم نسياناتها، والغائب في تخومها والمشطوب من حيويتها الشعرية، ومخزونها الإنساني واليقيني. نص شعري مثقل بالرموز والحقب والأقنعة؛ مشحون بالدلالات والأمثولات والتوظيف الأسطوري، من خلال المزج بين الأزمنة والأمكنة "عكاظ، السعلاة، بعر الآرام، طرفه، امرؤ القيس"، "فانحط في أفق الدنيا فطار له.."عكاظ" في غفلة البيداء والتقفه"، والسعلاة كشخصية خرافية أنثوية شيطانية، "وأنه قد رأى السعلاة فيه لها عشرون نابا كناب الفيل منعقفة". أوغل الشاعر في توصيف موحيات المكان والنبش في تفاصيله الاستعارية، وموجوداته داخل النسيج الشعري، واستنطاقه الجمالي والرمزي، "عن عشقه "بعر الآرام" في طلل.. سار الحبيب به عن "حنظل" نقفه"، وبعر الآرام هو رجيع الخف والظلف، والآرام الظباء الخالصة البياض، يقول امرؤ القيس: "نرى بعر الآرام في عرصاتها"، وفي بيت آخر "كأني غداة البين يوم تحملوا.. لدى سمرات الحي ناقف حنظل".
تناص العمري يوقظ الحياة في نص تراثي مشع، يتداخل معه ويستدعيه ليحاوره ويجره من وراء العصور والدهور، ويتعالق معه في تشابك حميم، وتفاعل توليدي منفتح، ولغة ريانة باهرة. الشاعر العمري لديه ولع احتفائي للتراسل مع المخبوء من الموروث الشعري والانتصار له والاشتغال عليه، مما يفصح عن فحولة لغوية، وتراثية صارمة بكل اشتراطاتها، فهو يناضل من أجل أن يعيد للقصيدة "الخليلية" هيبتها ومكانتها وليحول بينها وبين تصدعاتها وسقوطها تحت هيمنة التغالب الشعري وحرائق التحديث العاتية. في هذه القصيدة يربك العمري كل المصطلحات الراكدة والمستقرة في الذهنية الشعرية المستبدة، ليشف عن معانٍ أخرى "للشعر"، وتأويل آخر وتفسير يجسد معنى القصيدة، وحكمتها ومفاتيح جمالها وشرارتها الكامنة داخلها، "الشعر خلق أساطير معتقة... في كل جيل ليسقيها لمن خلفه"، "الشعر فض الكلام البكر ليس له.. سوى حكاية أنثى تجتني تحفه"، "الشعر رؤية "حسن القبح" إن عميت.. كل البصائر عنه أن ترى رهفه"، "فالشعر أبهة "المعنى" تناخ له.. شمس القوافي فيستوفي بها ترفه"، "الشعر كشط خبوت البوح عن كلم.. نوافر في جحور الروح منكسفه"، "الشعر سجدة جبار وبيع سدى.. وثقب لؤلؤة عذراء في صدفه"، "الشعر أسر "بريق الروح" هاربة.. من نقمة الطين لما راودت خزفه"، في هذه القصيدة الفاتنة يستدرجنا الشاعر العمري لكي نقرأه مرة أخرى، بعد أن أغمضنا الأعين عن منجزه الشعري الضخم، واستقراء تجربته الثرية وتعالياته الجمالية والمعرفية، ومطارحاته الشعرية والشعورية بعيدا عن التبخيس الجائر والتنكب المرفوض والاختزال المقيت.