يشيع عند كثير من الباحثين ويذيع أن عصر المماليك عصر انحطاط علمي وثقافي، هكذا يطلقون حكمهم على هذا العصر جملة وتفصيلا.

لن أزعم أن كلامهم صحيح على الجملة، ولا خطأ على الجملة، ولكني سأتناول هذا الحكم بشيء من التفصيل على إيجاز؛ لأن استقصاء الجزئيات واستقراءها مما يليق ببحث علمي، لا بمقالة في صحيفة سيارة.

أقول بادئ ذي بدء: نعم كان عصر المماليك عصر انحطاط باعتبار، وكان عصرا ذهبيا باعتبار آخر.

أما من حيث السياسة؛ فأظهر ما يميّز عصر المماليك الدسائس والولاءات والمكر والاستبداد والظلم والبطش، فلقد كان المماليك فريقين: المماليك البحريّة، والمماليك البرجيّة، وكان بين هذين الفريقين الكبيرين تنافس، وكل فريق منهما كان فيه فرقاء متنافسون كذلك.

سطا المماليك على السلطة في مصر بقتل توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأصبح قطز هو قائد البلاد، هذا المتغلب المستولي على السلطة هو الذي انتصر انتصارا هائلا ومدوّيا في معركة "عين جالوت" على المغول، وحمى مصر وما وراءها من هجماتهم الوحشية، ودخل دمشق وبلاد الشام فاتحا باسطا سلطانه على الشام بعد مصر. لكن قطز لم يتسع له الوقت كي يجني ثمار انتصاره العظيم، لم يتسع له الوقت ليعود إلى مصر ترفرف على رأسه رايات النصر، وتدقّ حوله طبول الابتهاج؛ إذ عاجله مملوك آخر هو ركن الدين بيبرس البندقداري فقتله -اغتيالا- بعد انتصاره بأيام قلائل، ودخل هو مصر بنبأ النصر بدلا منه، واستوى على عرش السلطنة. كان بيبرس بطّاشا مسرفا في العقوبات، فقد ذكر المؤرخون أنه أمر بقطع لسان رجل صرّح بأنه يتمنى أن يحجّ مع السلطان! لكنه مع بطشه وجبروته ابتدأ مسيرة جهاد الصليبيين بكل عنفوان وذكاء سياسي، حتى إذا مات بيبرس وخلفه قلاوون أكمل مسيرة جهاد الصليبيين، حتى طرد آخر من تبقى منهم ابنه الأشرف خليل بعد أن تولى السلطنة.

هذا، وقد شاع في عهد المماليك "الرشوة" و"البرطيل"، حتى إن بعض الناس كان يشتري المنصب بالمال فيتولى من ليس أهلا القضاء أو التدريس أو غيرهما بمال يدفعه لمن يملك تعيينه. إضافة إلى العوائد الفاسدة، والبدع الضالة الكثيرة، مما تجده مبسوطا في كتب التاريخ، وكتب الفتاوى والفقه في ذلك الزمن.

أما من حيث الديانة، فقد كان المذهب الرسمي، بل المذهب الاجتماعي السائد في عصر دولة المماليك هو المذهب الأشعري الصوفي، بل أستطيع أن أقول إنه كان العصر الذهبي للتصوف، ولمّا كان التصوف ذلك الوقت مختلطا ببعض الخرافات والعقائد الباطلة كالحلول والاتحاد؛ تصدى ابن تيمية، رحمه الله، في نقاش حاد من التصوف والصوفية وله معهم صولات وجولات، جعلت بعضهم يسلط عليه أتباعه، وشكاه آخرون إلى السلطان.

وكما كان العهد المملوكي عهدا ذهبيا للتصوف، كان كذلك عهدا ذهبيا للأوقاف والمدارس، فقد بلغت المدارس في (دمشق) على سبيل المثال ما ينيف على 80 مدرسة، للقرآن والحديث والفقه والتصوف وغيرها، ولا تزال بعض تلك المدارس صامدة تتحدى الزمن حتى هذه اللحظة، وفي تلك المدارس تخرّج أئمة كبار جدا، عاشوا للعلم والتأليف.

أما الفقه في الدين، فقد غلب على الفقهاء التقليد، والتزام المذاهب، وحسبك بما جرى لابن تيمية دليلا على هذا، فقد أوذي كل الإيذاء بسبب مخالفته لفقهاء عصره في مسألة الطلاق، وفي مسألة شد الرحل إلى زيارة قبر النبي، صلى الله عليه وسلم. ولم يكن ابن تيمية متقيّدا بمذهب -وإن كان في الأصل حنبليا- بل كان مجتهدا مطلقا يتبع الدليل.

ومع هذا، لم يخل عهد المماليك من جوانب في الإبداع لم تعرف من قبل، ففي عهد المماليك عاش الطبيب الشهير ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى،  وفي عهد المماليك عاش ابن خلدون واضع علم العمران، الذي أصبح علم الاجتماع، وفي عهد المماليك عاش الرياضي والفلكي الكبير ابن الشاطر، وفي عهد المماليك تكاملت نظرية المقاصد في أصول الفقه على يد الإمام الشاطبي، وفي عهد المماليك ظهر نقد المنطق الصوري متكاملا على يد ابن تيمية. وفي عهد المماليك ظهرت الموسوعات الكبرى، في التاريخ، والتراجم، والفقه، والتفسير والحديث وعلوم الرجال وغيرها.

لن أستطيع اختصار تاريخ المماليك في مقالة، ولكن هدفي من عرض هذه المعلومات أعلاه أن يرى القارئ جانبا من الانحطاط في تصرف المماليك قتلا وبطشا وغدرا وأكلا لأموال الناس بالباطل، يرافقه جانب مدهش في الانتصار على الأعداء، وتحرير بلاد المسلمين من المحتلين. وأن يرى القارئ جانبا من الانحطاط الاجتماعي والعوائد الفاسدة، مع العطاء العلمي الفريد.

ولهذا، أرى أن إطلاق القول بأن عصر المماليك عصر انحطاط فيه جناية، وإطلاق القول بأن عصرهم عصر راقٍ فيه تساهل.

بل هو عصر انحطاط باعتبار، وعصر راقٍ باعتبار. ولا عتب على علماء المماليك الذين كتبوا وأبدعوا وأضافوا وسجلوا لنا التراث وحفظوه، بل العتب على من قعد عن العمل، وارتضى التقليد.